عندما "كذَب" الطيّب صالح
ربما من الأنسب أن يُرَى المسلّي في حدّوتة إعلان الناقدة المصرية، سيزا قاسم، قبل أيام "سرّا" لم تُفصح عنه منذ 19 عاما، أنها لمّا كانت عضوا في لجنة اختيار الفائز بجائزة ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، في دورتها الثانية في العام 2003، لم تصوّت لإعطاء الجائزة للروائي صنع الله إبراهيم (تُمنح لمصري بعد منحها لعربي في الدورة السابقة)، وصوّتت لإدوار الخراط، غير أن رئيس اللجنة، الطيّب صالح، حاول أن يحيّد صوتها، من أجل أن تُعطى الجائزة بالإجماع، لكنها أصرّت على موقفها، ثم عند إعلان النتيجة، كذَبَ (مفردتها) الطيّب، وأعلن أن التصويت كان بالإجماع لصنع الله. وكتبت إنها تشعر بالندم لأنها لم تعلن موقفها على الملأ، وإنها شعرت في ذلك الوقت أن الإعلان لن يغيّر شيئا، "ولكن الآن أشعر أني أخطأت، لأن الإعلان كان سيفضح الطيّب، ويضعه في موقف حرج".
من العادي أن تشهد لجان تحكيم الجوائز في غير قطاع سجالاتٍ وتبايناتٍ بين أعضائها، والتصويتُ على توافقاتٍ بينهم هو الحل. وفي أرشيف تلك الدورة من الجائزة المصرية العربية أن أمين عام المجلس الأعلى للثقافة في مصر، حينها، والمسؤول عن الملتقى، جابر عصفور، أفاد، في مقالٍ نشره (في 2019)، بأن تلك اللجنة شهدت تجاذبا بين اسمي صنع الله إبراهيم وجمال الغيطاني، ثم مالت الأغلبية إلى صنع الله، وذلك باستقلاليةٍ وحياديةٍ كاملتين للجنة. .. ولكن، من باب التسلية، ابتداء، يجوز السؤال عمّ يضطرّ الطيب صالح إلى "الكذب"، وكان في وسعه أن يعلن أن التصويت جرى لصنع الله بالأغلبية، فلا تجد الأكاديمية القديرة، سيزا قاسم، نفسها في مكابدةٍ مع "سرٍّ" (يعرفه بالضرورة أعضاء اللجنة الآخرون ومعظمهم أحياء)، يُتعبها وهو في جوانحها، قبل أن تُفشيه بعد نحو عقدين، وترمي الراحل الطيّب صالح بالكذب، فيما الرجل ربما (والله أعلم) قدّر أنه "يمون" في كلامه عن الإجماع، وإنْ لا تُنبئ محاضر مداولات اللجنة بأن ذلك الإجماع قد حدث.
أمران ربما ينحيّان مسألة التسلية في متابعة القصّة هذه، بل ويشجّعان على تناولها بجدّيةٍ، والذهاب بها إلى المشكلة الكبرى التي يجوز حسبانها واحدةً من متلازماتٍ حاضرةٍ في جوائز ثقافيةٍ عربيةٍ كثيرة، أي تداخل الأهواء والحسابات الخاصة في بعضها، ما يتسبّب في نقصان الصدقية واختلال الضوابط فيها: الأول، أن الكاتب أحمد مجاهد، يعقّب على منشور سيزا قاسم، بأن الدفّة كانت تميل إلى إدوار الخراط، "لولا تغيير الآراء لأسبابٍ أعرفها ولن أتحدّث عنها"، وكتب أنه (يعرّف نفسه بأنه كان أمين سر اللجنة)، لن يفصح عن المستندات. الثاني أن جابر عصفور لم يلتزم بسرّية النتيجة، إذ يجري الإعلان عنها في حفل تكريم الفائز، فأخبر صنع الله بها. وأن الكاتب المغربي، بهاء الطود، نشر في صحيفةٍ في بلاده، في فبراير/ شباط 2014 (وكان جابر عصفور حيا يرزق رحمه الله) أن عصفور أخبره أنه وراء منح الجائزة (مائة ألف جنيه مصري) إلى صنع الله، بمعنى أنه "ضغط" على الطيّب صالح من أجل هذا.
ثالثة الأثافي في القصة التي لم تعد مسليّة، والبعد الأهم في الواقعة، أن صنع الله رفض في الحفل الجائزة، وزلزل القاعة في تلاوته بيانا حادّا، شرشَح فيه الحكومة المصرية، وبحضور وزير الثقافة فاروق حسني، وقال إنه لا يقبل هذه الجائزة من حكومةٍ "تقمع شعبنا، وتحمي الفساد، وتسمح للسفير الإسرائيلي بالبقاء (في مصر)"، واستعرض أحوالا عامّة في البلاد، وقال: ".. في ظلّ هذا الواقع، لا يستطيع الكاتب أن يغمض عينيه أو يصمت، لا يستطيع أن يتخلّى عن مسؤوليته". كان صنيعُه ذاك فعلا مدوّيا، وغير مسبوقٍ في احتجاج مثقفٍ عربي، ثمّة من أُعجِبوا بما فعل وآخرون انتقدوه (كاتب هذه السطور نشر إعجابَه في مقالٍ في حينه). فوجئ عصفور بما حدث، وأصيب بحرجٍ شديدٍ جدا. والمفاجأة أن الطيّب صالح، وهو الذي قرأ أمام الحفل بيان إشادة اللجنة التي ترأسّها بأعمال صنع الله، وقال عن "الإجماع" (المكذوب؟)، صرّح للصحافة إنه كان العضو الوحيد في اللجنة الذي رفض إعطاء صنع الله الجائزة، لأنه "لا يستحقّها"! ومعلومٌ أن الطيّب صالح مُنح الجائزة نفسها في الدورة التالية، تردّد، في حينه والله أعلم، أن ذلك من باب ردّ الحرج عنه (!)، ثم مُنحها إدوار الخرّاط تاليا أيضا، بنزاهةٍ فيما نتذكّر.
توبع في بعض الصحافة المصرية والعربية، أخيرا، ما جهرت به سيزا قاسم. إنْ تقرأ التفاصيل (وهي غزيرة)، من أرشيفها منذ 19 عاما، لن تجد المسلّي فقط، وإنما المؤسِف أيضا، بشأن الخفّة واختلال الضوابط ونقصان الأمانة والصدقية والجدّية لدى مثقفين وأدباء عرب كبار.