عندما كان الجنود على أبواب المدينة
لماذا يلحّ علينا الحبّ في زمن الحرب؟ هذا تساؤل شعري بليغ ومختصر، يحتاج صفحات لكي تجيب عنه. ولكن يمكن أن تجيب بعبارة من كلمات معدودة، مثل أن تقول إنها محاولةٌ أخيرةٌ لكي نقتنص حياة من وسط الموت. ولذلك كنت أقف في زاويةٍ مظلمة، وفيما يحاول الأولاد والأصحاب وبعض الغرباء في بيت النزوح في مدينة خانيونس أن يغيّروا من أجواء الخوف والترقّب، ويتضاحكون همساً، ويتغامزون وهم ينظرون نحوي، ثم يتحلقون فجأة حولي، ويتغنون في عتمة أمسيةٍ خريفية، وحيث يلفح أجسادنا البرد، بأغنيةٍ تعبر عن فرحتهم بذكرى يوم مولدي.
كان صوت القصف حولنا مرعباً، وما ضاعف من صوته المرعب أننا نقطن في دور أخير لبنايةٍ توشك أن تسقط، لأن صاحبها قد أقام الطابقين الأخيرين منها من دون أن يلتزم بمواصفات البناء المُحكم، فلم يضف الإسمنت المسلّح كما يطلق عليه، بل اكتفى بأن تلتصق الحجارة بعضها فوق بعض بالإسمنت، ولك أن تتخيّل كم كان مرعبا تصوّر أن تنهار تلك الحجارة فوقك، مع أصوات الاهتزاز فقط، تأثّراً بأعنف اجتياح يمهّد له العدو من بعيد، وعلى الأطراف الشرقية للمدينة تحديداً.
قبل يومين من ذلك الحدث، كان صاحب أكبر محل بقالة في المنطقة يُطمئنني بأن موادّ غذائية كثيرة خزّنها في مخازن ملحقة بمحله، تكفي سكان المنطقة والنازحين إليها ثلاثة أشهر مقبلة، وفيما كان الشكّ يساورني بأقواله، اشتريتُ كميات مضاعفة من كل صنف وقعت عليه عيناي، وكنت أتوقع الأسوأ، الذي بدأ بنزوحنا من شمال القطاع إلى جنوبه، في سابقةٍ لم تحدُث من قبل، ولم أحاول أن أطمئن بأن المدينة سوف تصمُد أمام آلة حربٍ مجنونة، تنشب مخالبها بضراوة، وتُحكم سيطرتها على كل منطقةٍ على حدة، بطريقة تجعلك موقناً أن اقترابها من مكان نزوحك أصبح على بعد أيام قليلة.
حاول ذلك الجمع أن يبدو سعيداً وغير عابئ، فيما اهتزّ المكان هزّة عنيفة، ووقع أحد الأطفال على الأرض، حين سقطت بالقرب منه مروحة سقف قديمة متآكلة الأطراف، وسكتنا جميعا، ونظرنا في وجوه بعضنا بعضاً، وقلت للجميع بصوت خافت خرج من بين شفتي: علينا أن نبحث عن مكانٍ جديد للنزوح إليه، لأنهم إن لم يصلوا إلى وسط المدينة خلال أيام سوف يسقط البيت هذا فوق رؤوسنا.
لم يردّ أحدٌ على اقتراحي المقلق والمحيّر، لأن البحث عن مكان جديد يعني أن تطلب من مريضٍ يحتضر أن ينهض لكي يغلق النافذة التي على يمينه لأن تياراً من الهواء البارد يتسلّل منها، وهكذا صمت كل شي حولي إلا بكاء الطفل الذي سقط على الأرض، وكان يبكي رعباً أكثر من بكائه من أثر السقوط، وأطلتُ النظر في وجوه من حولي، ورأيت شحوباً وصفرة حاولوا قبل دقائق أن يخفوها وهم يبتسمون ويتغنّون بأغنية تعبّر عن فرحتهم بقدوم ذكرى يوم مولدي، وكنت أعرف أنهم يحاولون أن يغيّروا من الأجواء المحيطة. وفيما كانت الأخبار تتوارد عن تقدّم القوات التي تجتاح المدينة برّياً، وفيما كان صاحب محلّ البقالة الأكبر في المنطقة يغلق أبواب محلّه الذي أصبح فارغاً ويختفي.
بعد يوم من محاولة التشاغل بحدثٍ تافه أمام هذه الأحداث الصعبة، كنت أتوصل إلى إجابة مقنعة توصل إليها الشاعر عن إلحاح الحب في زمن الحرب، أنه محاولة لتشتيت الانتباه عن الكوارث، كما يفعل بعضهم بالإكثار من التدخين والتهام الطعام أو حتى ممارسة الجنس، وقد تأكّدتُ من ذلك لاحقاً حين أعلن في غزّة، وبعد عام من المقتلة، عما يعرف بـ"طفرة المواليد"، وهي ظاهرة معروفة في مناطق كثيرة في أوقات ما بعد زمن التهديد الوجودي، ولذلك التمستُ عذرا للأولاد والنازحين في بيت النزوح في مدينة خانيونس، حين كانوا يحاولون التشاغل عن التفكير بالموت المُحدق بنا، حيث كان الجنود فعلاً قد اجتازوا أبواب المدينة.