عندما تذهب تركيا وأرمينيا إلى طي صفحة الماضي
تتجه الأنظار نحو نتائج أولى جلسات الحوار بين مبعوثي تركيا وأرمينيا للتطبيع في موسكو قريباً، لمعرفة حجم الهوّة بين مواقفهما، وحقيقة رغبة البلدين بتخطّي خلافات الماضي الثقيل وإرثه، وكذلك حجم التدخل الخارجي في المحادثات، سواء من موسكو أو طهران أو الاتحاد الأوروبي وكذلك من واشنطن. ويمكن القول إن فرص التوصل إلى اتفاق بين أنقرة ويريفان أكبر من أي وقت مضى، ولا سيما بعد انتهاء الاحتلال الأرميني لأراض أذربيجانية، وهو من أسباب قطع تركيا علاقاتها مع أرمينيا عام 1993، وأغلقت حدودها البرية معها، دعماً لأذربيجان التي لم تعد معترضة اليوم على بوادر التقارب كما كانت في عام 2009، وأعلنت أنها تدعم تطبيع تركيا "الشقيقة" علاقاتها مع أرمينيا. وصرح وزير خارجيتها جيحون بايراموف بأن تطبيع تركيا مع أرمينيا سيخدم المصالح المشتركة بين أنقرة وباكو أيضاً.
تغيرت حسابات الدول الثلاث (تركيا، أذربيجان، أرمينيا)، بعد حرب العام الماضي بين أرمينيا وأذربيجان، فقد غيرت تلك الحرب التي استمرت 44 يوما قواعد اللعبة. وبموجب اتفاق وقف إطلاق النار، سلَّمت أرمينيا الأراضي المحتلة إلى أذربيجان، ما يعني انتفاء مُبرِّر أنقرة الأصلي لقطع العلاقات. ومؤكّد إذا ما طبَّعت تركيا وأرمينيا علاقاتهما، فسيكون هناك مزيد من الفرص للسلام في كاراباخ بين أذربيجان وأرمينيا أيضا.
تساؤلات وتخوفات من إمكانية أن تلعب روسيا أو أميركا أو فرنسا دورا لإفساد الحوار بين أرمينيا وتركيا
ومع أن إمكانية إعادة العلاقات، هذه المرّة، كبيرة مقارنة بمحاولات سابقة، إلا أن التساؤلات تطرح حول إمكانية أن تلعب روسيا أو أميركا أو فرنسا دورا لإفساد الأمر، فالدول الثلاث تترأس مجموعة مينسك لتسوية النزاع بين باكو ويريفان، من دون تحقيق أي تقدم خلال 28 عاما من عمر الأزمة، وتحتضن أكبر اللوبيات الأرمينية وأقواها في الشتات.
استطاعت روسيا بالتنسيق مع تركيا إيقاف حرب كاراباخ الثانية، بعد وساطتها في إنجاز اتفاق ينظر إليه اليوم على أنه تاريخي بين أرمينيا وأذربيجان، وبعد استكمال تنفيذ كامل بنود الاتفاق، التي من بينها "تبادل للأراضي" أو للممرّات البرية، ستسيطر موسكو على حركة النقل بين أرمينيا وجزء من جيب كاراباخ عبر أراضي أذربيجان، وبين أذربيجان وجيب إقليم ناخشيفان الأذربيجاني عبر الأراضي الأرمينية، إلا أن هذا الشق من الاتفاق تحديداً يبقى غير كامل، مع استمرار إغلاق الحدود البرية بين أرمينيا وتركيا. ونجد موسكو اليوم قادرةً على إحياء الاتفاقات الدبلوماسية التي تم التفاوض عليها بين تركيا وأرمينيا في عام 2009، لا سيما فتح الحدود البرّية بين البلدين الجارين، فمع تنفيذ عديد من بنود الاتفاق الذي رعته روسيا بين باكو ويريفان، وسيطرتها على طرق ناخشيفان ولاتشين الاستراتيجية، فإن أحد العوائق الرئيسية أمام تنفيذ البروتوكولات التي سبق وتم التوقيع عليها بين أنقرة ويريفان قد أزيل.
يمكن الحديث عن إضاعة الغرب، وواشنطن على وجه الخصوص، فرصة وصول حكومة حليفة له إلى السلطة قبل ثلاثة أعوام في يريفان، لفتح صفحة جديدة من العلاقات بين حلفائه، باكو ويريفان وأنقرة، وتحقيق عدة أهداف استراتيجية، منها تعزيز نقاط الضغط على طهران عبر بوابتي باكو ويريفان، وأيضاً إضعاف حلقة النفوذ الروسي في جنوب القوقاز، بإبعاد دولة أخرى عن الدوران في فلك موسكو.
تتشابك العلاقات الأرمينية - التركية مع الخلافات الأميركية - التركية التي تفاقمت بعد عام 2013 خلال الحرب السورية
وقد بحث مستشار الأمن القومي الأميركي السابق، جون بولتون، قبل أكثر من عامين، في أثناء زيارته أرمينيا، مواجهة طهران، وفي دردشة خاصة مع دبلوماسي أرميني رفيع، قال فيها لكاتب هذه السطور إن إيران منفذنا البرّي الوحيد، كيف يمكننا أن نسير في خطط واشنطن ومشاريعها في ظل إغلاق الحدود التركية والأذربيجانية في وجهنا، مع استمرار التأزم في العلاقات بين روسيا وجورجيا. بكلام آخر، لا يمكن الابتعاد عن طهران من دون تحسن العلاقة مع تركيا التي ستقود إلى فتح الحدود البرية.
حالت دون تحقيق واشنطن والعواصم الغربية أهدافها ورغباتها في القوقاز عوامل عديدة، حيث يأتي ميل واشنطن نحو أرمينيا إلى حد كبير من خلال الرغبة في الضغط على تركيا، ولا يتعلق الأمر بالعلاقات الأرمينية - التركية، بقدر ما يتعلق بالخلافات الأميركية - التركية التي تفاقمت بعد عام 2013 خلال الحروب السورية، من خلال دعم إدارة الرئيس السابق، باراك أوباما، الامتداد السوري لحزب العمال الكردستاني (مصنف على قوائم الإرهاب في حلف الناتو ودول إقليمية)، وتهديد من خلال ذلك مصالح دولة عضو في الحلف الأطلسي، ويُنظر، في الوقت نفسه، إلى تعاون أرمينيا مع روسيا وإيران تحدّيا خطيرا لموقف الولايات المتحدة في القوقاز.
يصعب أيضاً النظر إلى التحرّك الدبلوماسي الفرنسي حيال نزاع القوقاز فحسب، من خلال تأثير اللوبي الأرميني في فرنسا، حيث نلاحظ ماكرون معارضاً لأنقرة في البحر المتوسط، وكذلك الموقف الفرنسي من الخلافات التركية – اليونانية، وقضية قبرص المعقدة، والمواجهة في ليبيا، ودعم باريس ما يُنعت إرهابا انفصاليا في سورية، الذي يهدّد وحدة أراضيها، ولاحقا سيهدد تركيا ودولا أخرى، بما فيها روسيا، في القوقاز الجنوبي والشمالي.
من بين أمور كثيرة كشفتها حرب كاراباخ الثانية أن مصالح أرمينيا مع موسكو وأنقرة، وليست في واشنطن وباريس
سيكون لإحياء مسيرة التطبيع التركي الأرميني تأثير ليس فقط في تغيير السياسة الخارجية وعناصرها الإقليمية لكل من تركيا وأرمينيا، وإنما في معادلة جيوسياسية جديدة بكل المقاييس، والعلاقات التركية الأرمينية خارج الحدود أكثر تعقيداً، وذلك في ظل رفض معظم لوبيات أرمن الشتات ومعارضتها التطبيع. وفي الواقع، لا بد أن ترافق هذه العملية معالجة ملموسة لظاهرة الاحتقان، أو معالجة الأسباب الجذرية للتوترات التي من شأنها أن تؤدّي إلى زيادة في درجة من الثقة بين الدول.
والعلاقات المعقدة بين البلدين الجارين تسببها جملة أمور، أبرزها مطالبة أنقرة يريفان بتسوية النزاع مع أذربيجان، والقيام بأبحاث بشأن أحداث 1915 في أرشيفات الدول الأخرى، إضافة إلى الأرشيفات التركية والأرمينية، وإنشاء لجنة تاريخية مشتركة تضم مؤرّخين أتراكاً وأرمن، وخبراء دوليين، وحل القضية عبر منظور "الذاكرة العادلة"، والذي يعني باختصار التخلي عن النظرة الأحادية الجانب إلى التاريخ، وتفهم كل طرف ما عاشه الآخر، والاحترام المتبادل لذاكرة الماضي لدى كل طرف.
يبقى القول إن من بين أمور كثيرة كشفتها حرب كاراباخ الثانية، أواخر العام الماضي، أن مصالح أرمينيا مع موسكو وأنقرة، وليست في واشنطن وباريس.