عندما تدعم أميركا حليفيْن في حربيْن
كما كان متوقّعاً، شكّل إطلاق روسيا ما تسمّيها عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا هزّة كبرى لموازين القوى العالمية، وغيّر سلَّم الأولويات الدولية على مختلف الأصعدة. ويُنظر اليوم كذلك إلى تداعيات الهجمات الإسرائيلية في غزّة أنها ستتجاوز الحدود الجغرافية للمنطقة. ولم تكن مفاجئةً مسارعة الرئيس الأوكراني، زيلينيسكي، إلى تأكيد دعمه المطلق لإسرائيل، وحقّها في الدفاع عن نفسها، عقب إطلاق حركة حماس عملية طوفان الأقصى، لكن المفاجئ أن هذا التأييد الأوكراني، رغم عدم تزويد إسرائيل كييف بمنظومة القبّة الحديدية لمواجهة الهجمات الجوية الروسية، سواء المسيّرات أو بالصواريخ، وعدم انضمامها لنظام العقوبات الغربية ضد موسكو، مع إدراك الساسة الأوكرانيين أن دعم إسرائيل يعدّ أولوية لدى كل الإدارات الأميركية، وأوكرانيا لا يمكنها أن تقاسم تل أبيب هذا الدعم، وواشنطن ستخصّص الحصة الكبرى من الدعم العسكري والاقتصادي والدبلوماسي للدفاع عن إسرائيل، في ظل خلافاتٍ كبيرةٍ نشبت في الكونغرس الأميركي بشأن حزم الدعم لكييف، في ظل أزمة رفع سقف الديْن ومخاوف إغلاق المؤسّسات الفيدرالية.
ومعروفٌ أن إسرائيل لم تطبق العقوبات التي فرضها الغرب على روسيا على خلفية الحرب في أوكرانيا، فتتواصل رحلات الطيران وحركة التبادل التجاري بينهما. ولا يخفي المسؤولون في تل أبيب أن حذرهم في التعاطي مع أزمة أوكرانيا بسبب رغبتهم بعدم التاثير على هامش المناورة الذي تتمتع به إسرائيل في سورية، وخشيتهم من أن يسهم أي موقفٍ مستفزٍّ لموسكو في تقليص قدرتهم على شنّ الضربات الجوية داخل الأراضي السورية، لمنع إيران من التمركز هناك، ولإحباط محاولاتها نقل الأسلحة إلى حزب الله.
لم يفوّت الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، الإشارة إلى فشل سياسات الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، بعد عملية طوفان الأقصى. وبغضّ النظر عن تأييد زيلينسكي إسرائيل، واتجاه الأوضاع نحو التصعيد في غزّة، سيما في حال بدأت إسرائيل عملية عسكرية برّية، لا أحد يمكنه التكهن بمدتها، فإنه لا يصبّ في صالح أوكرانيا، وستتراجع مكانتها من حيث الدعم الغربي، فالأولوية لإسرائيل.
تخوض روسيا حرب استنزاف طويلة داخل الساحة الأوكرانية، ضد التحالف الغربي بأكمله
والمؤكّد أن انشغال واشنطن على جبهتي دعم أوكرانيا وإسرائيل في حربيْن يصبّ في صالح روسيا، لأنه سيجعل أهمية أوكرانيا تتراجع لدى الأطراف الغربية، عسكرياً وسياسياً وإعلامياً ودبلوماسياً. وكلما طال أمد هذه الصراعات سيكون هذا في صالح الصين، إن نفّذت سيناريو عسكريا في تايوان، فلن تكون واشنطن قادرةً على الإمساك بكل تلك الملفات في آن واحد.
يضع توسّع المواجهات في إطار الصراع العربي الإسرائيلي واشنطن أمام امتحان الحفاظ على صورتها قوة عسكرية أولى في العالم، واختبار قدرتها على دعم حليفيْن، إسرائيل وأوكرانيا، في حربيْن منفصلتين في آن واحد. وروسيا مستفيدة على المديين، القريب والمتوسط، من اشتعال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، بسبب تأثيره المباشرعلى جبهة أوكرانيا. ولكن هذا على المدى البعيد واحتمال توسّع الصراع قد لا يصبّ في مصلحة موسكو، وخصوصا في حال انضمام إيران بشكل من الأشكال إلى المواجهات، لأنه قد يحتّم على موسكو الميل أكثر نحو أحد الاطراف، وهو ما لا تريده على الأقل حاليا.
عدم نجاح روسيا في تحقيق معظم أهدافها العسكرية المعلنة في بداية عمليتها العسكرية في أوكرانيا جعلها تلجأ إلى استراتيجية تهدف غلى إطالة أمد الحرب، وباتت تخوض حرب استنزاف طويلة داخل الساحة الأوكرانية، ضد التحالف الغربي بأكمله، حيث كانت التوقعات بداية الحرب تشير إلى نجاح سريع للقوات الروسية، لكن ذلك لم يحدُث.
يراهن طرفا النزاع في الساحة الأوكرانية على عامل الوقت في إنهاك الطرف الآخر
مكّن الدعم الغربي منقطع النظير لأوكرانيا، والتنسيق الاستخباراتي لمواجهة الهجوم الروسي، كييف من صدّ القوات الروسية في عدة مناطق في البلاد، ورفع سلاح العقوبات الغربية الأميركية الأوروبية الروح المعنوية لدى الأوكرانيين الذين شعروا بأنهم لا يخوضون الحرب منفردين، بالاضافة إلى أن المعلومات الاستخباراتية والتقارير الخاطئة التي وصلت إلى القيادة الروسية قبل الحرب كانت مغايرة للواقع داخل أوكرانيا.
ورغم نجاح القوات الروسية في تدمير قطاع واسع من البنية التحتية الأوكرانية، فإننا لا نشهد سعيها إلى إسقاط الحكومة الأوكرانية في الوقت الحالي. وصحيحٌ أن الصمود الأوكراني في مواجهة روسيا يعني استنزاف موسكو، وتكبّدها مزيدا من الخسائر العسكرية والمادية، إلا أن روسيا تواجه الاستنزاف بالاستنزاف، وتسعى موسكو إلى استنزاف الدعم الغربي لأوكرانيا، معتمدة على عدة عوامل، أهمها الأزمة الاقتصادية، تصاعد أزمة غذاء عالمية، والانقسام الحاصل بين الأوروبيين بشأن طريقة إنهاء الأزمة الأوكرانية دبلوماسياً.
واليوم، يراهن طرفا النزاع في الساحة الأوكرانية على عامل الوقت في إنهاك الطرف الآخر، ويبدو أننا أمام حربٍ مستمرّة من دون الوصول إلى تحقيق أهدافها على المدى المنظور، وعودة الصراع التاريخي في الشرق الأوسط إلى واجهة الأحداث، تصب في صالح روسيا أمام خصومها الغربيين للأسباب أعلاه.
يبقى القول، الواضح إن نظاما عالميا جديدا في مراحله الأولى للتشكل، أياً كانت النتيجة النهائية للصراع الدائر بين روسيا والتحالف الغربي، وما ساحة أوكرانيا اليوم إلا إحدى جبهاته، لكن السؤال عن طبيعة المرحلة المقبلة، وهل النظام العالمي الجديد سيولد كاملا، أم خديجا وربما مشوّها؟