عندما ابتذلوا قضية رفض التطبيع
قد يلتقط بعضُنا أمراً محموداً في تلك "الجذريّة" بين الأردنيين في رفض إسرائيل وكلّ تطبيعٍ معها، كما تبدّت في الهبّة التي شاعت بين كثيرين منهم، قبل أيام، ضد أن يُنازِل فريق نادي الوحدات لكرة القدم نادياً إماراتياً في مباراةٍ ضمن منافساتٍ آسيويةٍ في دبي، بسبب مشاركة اللاعب الفلسطيني الإسرائيلي الجنسية، مؤنس دبّور، اللاعب السابق في منتخب إسرائيل، في المباراة في هذا النادي الذي جيء، في الأثناء، على مشاركاتِه في مبارياتٍ مع فرقٍ إسرائيلية، غير أن الخلافات التي ذاعت، في كل هذا الموضوع، دلّت على اختلالٍ عميقٍ في مفهوم رفض التطبيع في الوسط الأردني، وفي كيفيّات ممارسته والتعبير عنه، بل في الوُسع أن يقال إنّ ابتذالاً جرى في اصطناع القصّة كلها، وذهابها إلى مناطق في النقاش بكثيرٍ من التشوّش والمزاودة والمجّانية. وإذا صحّ ما تردّد عن تدخّلات أجهزةٍ أردنيةٍ حسمت قرار القائمين على إدارة النادي، المنتخَبين، أو لم يصحّ، وإذا صحّ أن مكايداتٍ وأجواء غير طيّبةٍ بين بعض هؤلاء كانت وراء كل الضجيج، أو لم يصحّ هذا الكلام، فإن الذي توبع من وقائع تدحرجت دلّ على أن هناك أزمةً قياديّةً في النادي العتيد، وأن لضغوط السوشيال ميديا وشعبويّاتها تأثيرا واضحا على اتّخاذ القرار، ما ينعكس بداهةً على الأداء العام في النادي وحضوره وصورته، الأمر الذي ربما نجد شاهداً عليه في نتيجة المباراة موضوع الجدل، فقد خسر "الوحدات" بثلاثة أهدافٍ نظيفةٍ في مرماه، سدّد الأخيرَ منها مؤنس دبّور نفسُه، لم يشاهدها سوى قلّة في مدرّجات الملعب، إذ لم يجر تصوير المباراة لبثّها، فبدا أن ما تسلّى به نفرٌ واسعٌ من الأردنيين بشأن اللاعب دبّور الذي جرى شيءٌ من التشنيع لشخصِه، ورميِه في دائرة إسرائيلية محضة، كان هو التباري بين فريقٍ دعا إلى تحكيم العقل والمشاركة في المباراة من دون افتعال مسألةٍ مصطنعةٍ وفريقٍ آخر أراد تظهير نفسِه أكثر وطنيّةً، وأحدّ وعياً بخطورة التطبيع، وكثيرون يقيمون في هذا الفريق فيما يفيضون حماسا في الانتصار لنظامٍ قاتلٍ في سورية، ومنهم الممثلة جولييت عوّاد التي ضاعفت "شعبّيتَها" لمّا أعلنت استقالتها من عضوية شرفٍ في النادي كانت تحظى بها.
... التطبيع مع إسرائيل هو إقامة علاقاتٍ واتصالاتٍ مع مؤسّساتٍ وهيئاتٍ وتشكيلاتٍ إسرائيليةٍ، بأي صيغةٍ أو كيفيّة. هو تبنّي رواية العدو عن الصراع معه. هو مشاركة هذا العدو في أنشطةٍ تحت يافطات البحث عن السلام والتسامح بين الشعوب. ليست العلاقة مع جهةٍ عربيةٍ (وأجنبية) مطبّعة تطبيعا، وإنْ في الوُسع أن يجري تحفّظٌ أو إشهار موقفٍ بحسب تقدير الموقف بشأن هذه الحالة أو تلك. ليست العلاقة مع أي فلسطينيٍّ في الأراضي المحتلة في 1948 من حملة الجنسية الإسرائيلية تطبيعاً. وللاعب مؤنس دبّور مواقف فلسطينية ووطنية (وهو شابٌّ متديّنٌ بالمناسبة) لا يحتاج من أحدٍ في قيادة نادي الوحدات أو غيرها أن يعرّفه بالذي يجوز والذي لا يجوز. ولأنّ واحداً من وجوه نضال فلسطينيي الداخل هناك أن يُحرِزوا المساواة مع الإسرائيليين اليهود بصفتهم مواطنين في الدولة التي قامت على أرضهم، وهم أصحابُها الأصليون، فإن أعمالَهم في مؤسّساتٍ إسرائيليةٍ من حقوقهم، واستحقاقٌ لا يجوز التنازل عنه، وذلك بمقاومة كل تمييزٍ يستهدفهم، في وقتٍ يحافظون على هويّتهم وقوميّتهم وثقافتهم عرباً وفلسطينيين.
عويصةٌ ومعقّدةٌ جداً أوضاع فلسطينيي 1948، ومن المرذول المستهجَن أنّ أهل الأردن، وهم الأقرب وجدانياً وشعورياً واجتماعياً إلى كلّ الفلسطينيين، لا تزال نخبٌ منهم لا تقف على التمايزات والخصوصيّات بشأنهم، ولا تعرف أن الأحزاب العربية الوطنية، غير المتصهينة بداهةً، هناك، إنما تتنافس على العضوية في الكنيست من أجل حقوق العرب الفلسطينيين في أرضهم كاملةً طالما هم "مواطنون إسرائيليون" من المرفوض أن يُحرز اليهودي المستقدَم من بولندا وروسيا والمغرب أكثر منها. وليعلم من عليه أن يعلم في نادي الوحدات وغيره (وجولييت عوّاد) أنّ أهالي بلدة سخنين لمّا فاز ناديهم، في العام 2004، بكأس إسرائيل في كرة القدم، احتفلوا برفع العلم الفلسطيني، وأنّ ياسر عرفات هنّأهم، وكذلك فعل رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه، شارون.
خسروا في المباراة في دبي، وخسرت في الأردن قضية رفض التطبيع مع إسرائيل كثيراً في الابتذال المُتهافِت الذي ألحقَه بها من تنقصُهم هناك درايةٌ أوسع بفلسطين وأهلها... وأيضاً بأوجه الصراع مع العدو.