عمّار الشريعي... الكفيف الذي يتحسّس المعنى

02 نوفمبر 2023
+ الخط -

ليس لأنه ابن بلدي سمالوط، وليس لأنه ابن علي بيه الشريعي، مالك الأفدنة والسرايات المغلقة على الثعابين فوق أشجار المانغو بعدما نزح الأحفاد إلى القاهرة، وتركوها مهملة لبقايا الخدم حين طاولتهم الأمراض، كالسكري، وتهدّمت بيوتهم. ورأيت بالأمس بيت عمّار الذي نشأ فيه كخرابة مهدّمة، بعدما ارتفعت أبراج خدمهم حتى وصلت إلى العشرين طابقا، من دون أن تراعي الأصول أو حتى أدنى درجة من درجات اللياقة. ولكن هذا هو الزمان وأهواله نراه واضحا في البنيان، وما آلت إليه الظروف والأحوال، وكأن ابن خلدون قد رأى وأدرك من قرونٍ خلت هذه الأهوال كلها فكتبها في مقدّمته.

ليس لأنه ذلك الكفيف خفيف الظلّ ورفيع الثقافة والقارئ الذكي، علاوة على احترافه الموسيقى والعزف والتذوّق والنقد خفيف الظل بنباهةٍ وبلا غرض. وليس لأن جدّه الثري خفيف الظلّ كان يقول دائما هاتوا لي سيّد الحجيلي (جدي)، كي يرفع عنا الهموم بالضحكات، ونحن نعيش ضحكا قد فاق البكاء حرقةَ في كل مكان. وليس لأن من هؤلاء الأثرياء في "بيت الشرايعة"، أعمامه وأخواله، من كانوا من أهل المروءة حتى في صناعة السينما أيام بداياتها العرجاء، وكيف ساهموا بأموالهم لمنتجة مشهورة، تزوّجت من أخين منهم تباعا، وكانت بيوتهم مسرحا لاستقبال أم كلثوم، حينما كان الغناء غناءً ووجاهةً وأدبا، قبل أن يتحوّل إلى شبه سامرٍ دائم للسلطة "وبالأمر المباشر"، وقبل أن تستحوذ على ألحانه وكلماته وشيكاته "أجولة الأرز"؛ بعدما ارتفع سعره في الأسواق وعزّ على الآكلين.

فعلا، أيام تستحقّ خفّة ظلّ عمّار، أو علّه كان سيواصل الانزواء، والذي بكل أدب ودماثة وجّه رسالة تلفزيونية وكان كيلو الأرز لم يصل إلى الخمسة جنيهات، قائلا لحسني مبارك: "تنحّ حضرتك لو سمحت، ونقول لك شكرا سيادة الرئيس". ولكن مبارك، في أيام ثورة يناير الأولى، لم يستمع لكلمات عمّار الشريعي البسيطة، وظلّ على عناده، وهذه عادة في الطبائع، لا يرى ما يراه العقلاء، حتى وإن كان أحد هؤلاء العقلاء هو عمّار، ليس له مصلحة وليس من أصحاب العوز.

أكتب عن عمّار الشريعي، ذلك الذي يحرّك لك أجنحة المخيلة الأدبية في طريقة رسمه الشخصيّات الظريفة التي تلاقى معها مصادفةً في حياته، وكأنه بالكلمات والضحكات القليلة يرسم لك الملامح ببراعة بمجرّد تذكّره لكلمات تلك الشخصية في ذلك الموقف الكوميدي الذي تنبع منه الضحكات رغم الحرج، كذلك الناظر، ناظر محطّة سكّة حديد في مصر، علّها محطّة البدرشين أو دمنهور، وعلّه كان بالمعاش في أوائل السبعينيات أيام كان عمّار طالبا متفوّقا بكلية الآداب في جامعة عين شمس قسم اللغة الإنكليزية، وكانت مادّة الامتحانات لطالبٍ كفيف، هي مادة الأدب الإنكليزي، والسؤال المطلوبة إجابته عن شكسبير، ولغته التي حافظت على مخارج الحرف "نطقا"، في كامل كلاسيكيّتها، وإذا بعمّار يملى على هذا الناظر الذي لم يعرف عمّار أنه ناظر محطّة قطارات بعد وليس مدرس ثانوي لغة إنكليزية، كي يكون على مستوى تحويل المنطوق من عمّار إلى كتابةٍ يأخذ عليها الدرجة المناسبة له. لاحظ عمّار من نطق الناظر الأحرف شيئا مريبا، فابتسم وسكت، ودارت في رأسه وعينيه التوجّسات، وإن لم يكفّ عن الابتسامات من نطق ناظر المحطّة الكلمات، ودخل الأمر إلى بعض الضحك. حينئذ هاج ناظر المحطّة كبير السن وماج وضرب الدرج والأوراق بيديه قائلا: "أنا ناظر محطّة البدرشين ومعي إلزامية سنة 1937". وراحت كلمات قسمه تأخذ طريقها إلى الطلاق بالثلاثة، فسكت عمّار حتى أكمل ناظر المحطّة كتابة ما يقوله له عمّار في ورقة الإجابة. وفي نهاية السنة، حصل عمّار الشريعي على تقدير جيد جدا في كل مواد تلك السنة، إلا مادّة ناظر محطّة البدرشين صاحب الشهادة الإلزامية لسنة 1937، فقد حصل فيها عمّار على "مقبول".

أمرّ الآن على داره بعد ما تهدّم بشكل كامل، شكل يدعو إلى الرثاء، على بيت فنّان كان يتعلّم فيه العزف صغيرا، ثم يذهب مع الخادم إلى "كتّاب الشيخ أبو صبرة" على بعد بيتيْن. أنظر إلى البيت بعد ما تهدّم، وأحاول أن أرى ولو حتى طرفا من "قبّة الشيخ عبد الملك"، فلا أرى أيّ شيء.

كم أسعدنا عمّار بصدقه الجارح في حكاياته وخفّة ظله، وكم قسوْنا على بيته المتواضع بنسيانه.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري