عشر سوابق تاريخية

26 ديسمبر 2023
+ الخط -

على مدى قرن وأزيد، خاض الشعب الفلسطيني سلسلة لا حصر لها من المواجهات والمعارك والانتفاضات ضد المشروع الاستيطاني الصهيوني، في معظمها معارك دفاعية متفرّقة، ومواجهات عفوية متنقلة، إلا أن "طوفان الأقصى"، بكل ما تجلى فيه من حسن تدبير وتنفيذ، كان، في حدّ ذاته، أول حربٍ خطّط لها بكفاءة، وبادر إليها باقتدار هذا الشعب الذي لم تنكسر له روح ولم يفلّ له حديد، رغم كل ما تعرّض له من اقتلاع وقتل وترويع، فكان "الطوفان" أول حربٍ هجومية فلسطينية من نوعها، وقعت وانتهت يوم 7 أكتوبر، صنعت نقطة فارقة، وحققت نتائج لا تمّحي، وهذه هي أولى السوابق العشر التاريخية.
في هذه الحرب، وفي غضون ست ساعات عادلت حرب الأيام الستّة، أنجزت هذه الحرب كل ما كانت تهدف إليه من غاياتٍ كثيرة، إن لم نقل إنها أنجزت أكثر مما كان مرجوّاً منها، بما في ذلك تقويض صورة دولة مرهوبة الجانب، ومزّقت روح العجرفة، ونزعة الغرور والغطرسة، وبدّدت الأوهام الشائعة عن القلعة الحصينة، والأسوار الحديدية، والموانع الإلكترونية، والخرافة الاستخبارية، وغير ذلك مما استقرّ في مخيالنا العام عن الجيش الذي لا يُقهر، والدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وربما التفوّق الجيني، فجاء الطوفان عارماً، فكسح ذلك كله وجرفه، وحقّق أول هزيمة استراتيجية تلحق بالدولة العبرية، وهذه هي السابقة التاريخية الثانية.
خاض الفلسطينيون، على مدى العقود الطويلة الماضية، معارك من داخل أرضهم ومن خارجها، خصوصا في زمن العمل الفدائي والكفاح المسلح، وقاوموا الاحتلال بالسلاح والحجارة والسكاكين، دافعوا عن أنفسهم ببسالةٍ في وجه الاعتداءات المتلاحقة، سيما على قطاع غزّة، غير أن هذه الحرب الهجومية الأولى، كما سبق ذكره، كانت أول حربٍ تدور رحاها على الأرض الفلسطينية، وداخل أسوار القلعة ذاتها، مسجّلة بذلك ثالث سابقة تاريخية. أما السابقة الرابعة فماثلةٌ في حقيقة أن الحرب الانتقامية التدميرية الجارية على مدار الساعة في قطاع غزّة، منذ نحو 80 يوماً، هي أطول الحروب العربية الإسرائيلية على الإطلاق، وأشدها ضراوة، ضد دولة قصيرة النفس، تقوم عقيدتها العسكرية على مبدأ الحرب الخاطفة، ونقل معاركها إلى الأراضي المجاورة، من دون حاجة إلى صافرات الإنذار بالضرورة.
وهذه هي أول حربٍ يخوضها الفلسطينيون من دون اتكال على شقيق، أو رهان على حليف، الأمر الذي حملهم على إبداع جملة من السوابق غير المسبوقة في تاريخهم، وأهمها سابقة الاعتماد على النفس، سواء بتصنيع سلاحهم وتجهيز مقاتلين أشدّاء، قوامهم عشرات الألوف، قاتلوا بكفاءة لم يقاتل بمثلها آباؤهم وأجدادهم، أو بما استطاعوا إبداعه من وسائل مناسبة لإصلاح الخلل الفادح بين شقيّ المعادلة، بما في ذلك تخليق الأدوات القتالية المكافئة نسبياً لمواجهة التفوّق الجوي الكاسح، فكانت معجزة الأنفاق ورقة استراتيجية أثبتت فعاليتها في هذه الحرب، وهذه هي السابقة الخامسة. أما السادسة فكانت ورقة الأسرى والرهائن، تلك التي تم إحرازها يوم طوفان الأقصى، ورقة استراتيجية أخرى ثمينة، ولا سابق لها، في حرب الدفاع عن النفس أولاً، وتحقيق أحد أثمن الأهداف المنشودة ثانياً، تحرير الأسرى الفلسطينيين وتبيض السجون الإسرائيلية.
السابقة التاريخية السابعة حاضرة ملء السمع والبصر، في انقلاب تلك الظاهرة التي ظلت مرافقة لنا في كل الحروب الماضية، ونعني بها ظاهرة النزوح والهجرة، التي أتت على حساب المستوطنين هذه المرّة، فكان ذلك أول استثناء على القاعدة، وأول انكسار في منحنى الهجرة اليهودية المتصاعد، من دون توقف، إلى أن وقع الطوفان الجارف وتحقّقت المفاجأة الفلسطينية. أما السابقة الثامنة، فهي هذه الكفاءة القتالية، وهذا الصمود المذهل للمقاومة، وهذه القدرة الهائلة على إيقاع أفدح الخسائر في صفوف عدوٍّ متفوّق بكل المعايير المعتمدة، الأمر الذي جعل بعض العسكريين العرب المتقاعدين يتساءلون بحرقة: كيف هزمتنا إسرائيل وجيشها بهذه الهشاشة؟
ويمكن تلمّس السابقة التاسعة فيما نرى ونسمع مما يكاد لا يُصدّق، مثل قصف تل أبيب، بكل ما ترمز إليه أكبر الحواضر الساحلية، بدفعاتٍ صاروخيةٍ تُدخل نحو ثلاثة ملايين مستوطن إلى الملاجئ دفعة واحدة، وتُدهور حياتهم اليومية، الأمر الذي بدت فيه هذه المدينة النيويوركية الباذخة وكأنها تقع في غلاف غزّة، وأن سعرها صار بسعر مستوطنة سديروت الحدودية. أما السابقة العاشرة، التي قد لا تكون الأخيرة، فهي كل هذا الانقلاب في الرأي العام الغربي، وكل هذه العزلة التي لا تشفع فيها حتى الإدارة الأميركية، وذلك جرّاء ما تقارفه دولة تمزّقت روحها وجُنّ جنونها.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي