عسل البطّيخ وحنظله
البطّيخة جواب أشهر حزّورة عربية مطلقاً، لكنها لا تفتح باب مغارة، ولا تسدُّ جوعاً، وهي أطرف الفاكهة، ولا ينافسها في السباق الرئاسي إلا الباذنجان، فالبطّيخة جوابٌ ساخرٌ للأسئلة العمياء والسياسية خاصة. يقال في بني آدم "حامل النوى "دعب"/ يستخفه الطرب ... إِن بَكى يُحَقُّ لَهُ / لَيسَ ما بِهِ لَعِبُ". البطيخ هاردي عشائر النبات، أما لوريله فالباذنجان.
سألتُ صديقاً مصرياً عن مصطفى الفقّي، فقال: بطّيخ، وكنت أحسبُه باذنجاناً. وكنتُ أظنُّ أني أعرفُ كثيراً عن فلسطين، لكنّي أدركتُ أني أجهل الجاهلين، وعلمتُ أنّ ثمة طعاماً فلسطينياً "مقاوماً"، اسمُه الفقّيعة يُطبخ اللحم فيه باللبن، وفيه كيدٌ ديني. ومن سيرة عبد الوهاب المسيري الفكرية أنّ أعداء لحم الجمل كانوا يغتاظون من رفع الفتية الأعلام الفلسطينية ويقتلونهم أو يحطّمونهم، ثم احتال الفتية بصور البطّيخ، فألوانه ألوان العلم الفلسطيني، ولو رفعوا اليقطين (وحش الفاكهة ذا العضل والدروع) لأغضبوه، فالمحتلّ لا يحتاج إلى ذريعة للغضب. الغضب في محلّه سؤدُد.
لا يهولنّك، عزيزي القارئ، ألوان العلم الفلسطيني أو السوري، إن هي إلا ألوانٌ اقترفت، وهي تتشابه عليَّ كما تشابه البقر على بني إسرائيل، وقد اختيرت عفو خاطر "المجوز" لوريل سايكس وهاردي بيكو (راجع صحّة الاسمين)، لكنها صارت رمزاُ، لاحقاً اجتهد المجتهدون فوجدوا تأويلاتٍ لألوان أعلامنا الموقّرة مثل زعم الزاعمين أنّ ألوان العلم السوري مقتبسةٌ من قول صفي الدين الحلي: بيضٌ صنائعنا، سودٌ وقائعنا، خضرٌ مرابعنا، حمرٌ مواضينا! إن يقولون إلا غرورا.
تقول أخبار إنّ دولةً أوروبيةً (حزّورة؟) حظرت استعمال رمز البطيخ في التظاهرات المعادية للحرب على غزّة، فذكّروني بالحاكم بأمر الله الذي حرّم أكل الخسّ وأطعمة أخرى، وإنّ حكّامنا جعلوا كلّ الطعام محرّماً بالغلاء والظلم، حرصاً على "هيكلة" المواطن وهو حي! أحاكم بأمر الله في أوروبا العلمانية!
وصفت الصحافية كريستين أمان بور حرب البوسنة والهرسك بأنها حربٌ من القرون الوسطى، قتلاً وتجويعاً، وأنَّ ﺃﻭﺭﻭﺑﺎ ﺭﻓﻀﺖ نجدتهم، ﻭسخرت الصحافية من وصفها بالحرب الأهلية، والقتل استحرَّ فيها ﻧﺤﻮ أربع ﺳﻨﻮﺍﺕ، ﻫﺪﻡ ﺍﻟﺼﺮﺏ ﻓﻴﻬﺎ ﺃﻛﺜﺮ ﻣﻦ 800 ﻣﺴﺠﺪ، ﺑﻌﻀﻬﺎ من ﺍﻟﻘﺮﻥ ﺍﻟﺴﺎﺩﺱ ﻋﺸﺮ ﺍﻟﻤﻴﻼﺩﻱ، ﻭﺃﺣﺮﻗﻮﺍ ﻣﻜﺘﺒﺔ ﺳﺮﺍﻳﻴﻔﻮ ﺍﻟﺘﺎﺭﻳﺨﻴﺔ، ﻭﻟﻤﺎ ﺳﺌﻞ ﻗﺎﺋﺪ ﺻﺮﺑﻲ عن سبب قتلهم البوسنيين، ﻗﺎﻝ: ﺇﻧﻬﻢ ﻻ ﻳﺄﻛﻠﻮﻥ ﺍﻟﺨﻨﺰﻳﺮ!
الطعام يقرّب بين الناس ويباعد، وقد يكون سبباً في المحبّة والمؤاخاة أوالعداوة و"الفشخاء". رُوي أنَّ معاوية قَالَ معيّراً الأحنف: يَا أحنف، مَا الشَّيْء الملفّف فِي البجاد؟ قَالَ: هُوَ السخينة يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ. والبجاد: كسَاءٌ يلفف فِيهِ اللبن، وكان معاوية يريد أن يسخر بالأحنف وقومه، فردَّ له الأحنف الصاع صاعيْن وأراد؛ أَن قُريْشاً يأكلونها ويعيّرون بهَا، وَهِي أغْلظ من الحساء، وأرقّ من العصيدة. وَإِنَّمَا تُؤْكَل فِي كلب الزَّمَان، وَشدَّة الدَّهْر.
يعيّر رستم المغيرة بن شعبة بقشف العيش، وأكل الضباب، قبل القادسيّة، فيردَّ عليه المغيرة: "وأما الذي ذكرت من سوء حالنا، ومن قلّة زادنا، ومن ضيق عيشنا، ومن اختلاف قلوبنا، فنحن نعرفُه أيضاً ولا نُنكره، كنّا في مثله أو أشدَّ منه: كان أفضلنا من يقتل ابن عمّه، ويأكل ماله، وكنّا نأكل الميتة والدَّم والعظام، وغير ذلك من سوء العيش".
أما الهندوس فلا يمضي أسبوعٌ إلا ونسمع بقتلهم مسلمين بشُبهة ذبح الآلهة المسكينة، وأحياناً من غير شبهة. تقول تفسيراتٌ في مشكل تقديس طوطم العِجل (ولي عهد البقرة)، إنها مكيدة من الكهنة لصيانتها من الذبح وادِّخارها للحراثة، لكنّ هذا لا يصدُق على الوعل والطاووس والخنزير... ويعلم القارئ أنّ المسلمين واليهود متقاربون في المائدة، وإنّي لأشتري اللحم من سيدة يهودية، وأحبُّ طبق الكسكس بالعلياء فالسند، لكنَّ قعقعة المتة أشدُّ عليّ من وقع الحسام المهند.
لم يجد التاريخ أشدَّ من سلاح الجوع، لكنَّ البطّيخة المصون مظلومة وبريئة. قال المغيرة لرستم: ولكنَّ الدنيا دُوَل.
إنها تدور... أقصد البطّيخة.