عرب المنامة وأوهام القوة والفعل
انتهت القمة العربية في المنامة إلى طلب نشر قوات حماية وحفظ سلام تابعة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلّة، إلى حين تنفيذ حلّ الدولتين، وعقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة، لحلّ القضية الفلسطينية على أساس حلّ الدولتين، وهذه مطالب تعتبر ذات سقف مرتفع، بالمقارنة مع الاستعدادات العربية لدعم هذه المطالب، وفرضها على أجندة السياسة الدولية، في بيئة صراعية شديدة الاستقطاب.
يطرح ذلك تساؤلاً عن المعايير التي على أساسها يصنع العرب قرارات قممهم، وما إذا كانت هذه القرارات جدّية وقابلة للتنفيذ أم مجرد كلام إنشائي في وثائق تحمل ختم الجامعة العربية، ذلك أن مثل هذه المطالب من شأنها إحداث تحوّل كبير على المستويين الإقليمي والدولي، لما سيترتّب عليها من تداعيات جيوسياسية، في لحظة يقيس الفاعلون الدوليون فيها خطواتهم بالسنتيمتر، تحسباً لانعكاسها على مواقفهم ومواقعهم الدولية، في ظل تشابك هائل بين قضايا السياسة الدولية، وصراع المشاريع الجيوسياسية في العالم.
لا يبدو أن العرب أجروا حتى موازنة بسيطة بين وزنهم في ساحة الفعل الدولي وقائمة مطالبهم من البيئة الدولية، ولا اختبروا قدرتهم على تحقيق الأهداف التي أعلنوها، بدليل أنهم لم يحشدوا لا موارد عسكرية أو دبلوماسية، لفرض مطالبهم من البيئة الدولية، ولم يسعوا إلى تشكيل طاولة تفاوض سياسي مع الفواعل الدولية، أو على الأقل مع الإدارة الأميركية التي لديها القدرة على التحكّم بمخرجات الحرب الدائرة في غزة.
لا يملك الوزن العربي، بوضعه الحالي، ثقلاً لديه القدرة على تسويق مطالب وتنفيذ الأهداف المعلنة
الأهم من ذلك، لم يُشهر أحد من العرب، لا على مستوى فردي أو في إطار تكتل أكبر، أوراق قوته، ويضعها في كفة مقابل تحقيق المطالب العربية، علماً أن الأوراق العربية كثيرة، تبدأ من تهديد إسرائيل بوقف عمليات التطبيع معها، وصولاً إلى ورقة النفط والغاز والأسواق، ولو حتى مجرد التلويح بهذه الأوراق.
لا يملك الوزن العربي، بوضعه الحالي، ثقلاً لديه القدرة على تسويق مطالب وتنفيذ الأهداف المعلنة، وقد كشفت الحرب على غزة هذه الأعطاب في القدرة العربية، إذ لم يستطع العرب تجاوز إهانة تنكيل إسرائيل بالخدج في غزة، ولا تجويع شعبها، ولا إهانة نسائها وشيوخها، في وقت تجاوزت المسألة مجرد التنكيل بحماس وبأهل غزّة، إلى التنكيل بصورة العرب ووزنهم وتأثيرهم الدولي، فمن لم يستطع تحقيق أهداف جزئية وبسيطة، كيف يتجرأ على طرح مطالب بحجم قيام دولة فلسطينية في الضفة وغزة، أم هو مجرد كلام صالونات، لا يهتم به حتى أولئك الذين وقّعوا على مخرجات قمة المنامة؟
ليس سرّاً أن تحقيق الأهداف في السياسة الدولية يحتاج إلى ثقل مواز، وقدرات مكافئة، وخيارات وبدائل موجودة يمكن اللجوء إليها، أو خطة (ب) إذا لم يستجب الخصم، أين الخطة (ب) التي جرى التلميح أو التصريح بها؟ وما الخيارات والبدائل التي جهّز لها العرب قبل أن يرتكبوا هذه الخطيئة الكبرى بكشف عجزهم وضعفهم؟ إلا إذا كانت مطالبهم مجرد أمنيات، وفي هذه الحال كان يجب أن تسبق مطالبهم عبارة نتمنى، بحيث تصبح على الشكل التالي: نتمنى أن يجري نشر قوات حماية وحفظ سلام دولية تابعة للأمم المتحدة في الأرض الفلسطينية المحتلّة، ونتمنى عقد مؤتمر دولي تحت رعاية الأمم المتحدة، لحلّ القضية الفلسطينية على أساس حلّ الدولتين، ورغم أن هذه الصيغة تنطوي على اعتراف صريح بالضعف والهوان، فإنها تبقى أقل إهانة من التقدّم بطلبات لن يلتفت لها أحد، لأنها غير محصّنة بأوراق وازنة.
نصف الدول التي حضرت القمة العربية أشباه دول، لا حوكمة، ولا هياكل حكومية، ولا أنسجة اجتماعية متماسكة
كيف سيكون للعرب وزن في الحسابات الدولية، وهم بالأصل قوّة سائبة هائمة على وجهها، ومحاصرة من قوى إقليمية متوسّطة القوى، ويكفي للدلالة على هذا أن نصف الدول التي حضرت القمة العربية أشباه دول، لا حوكمة، ولا هياكل حكومية، ولا أنسجة اجتماعية متماسكة، دول تلعب الأقدار والمافيات والمليشيات وأشباه حكام يتحكمون بمصائرها ومستقبل شعوبها، ودول أخرى لديها أزمات داخلية مستعصية الحلول، وبالتالي، أولوياتها ملتصقة بدرجة كبيرة بإيجاد مخارج وحلول لأزماتها، أو التخفيف منها قدر الإمكان، وبالتالي لا تدخل فلسطين ومأساتها ضمن أجندة أولوياتها لا من قريب أو بعيد.
لدى العرب ثروات ومزايا جغرافية مهمة، وإمكانات لا بأس بها، لكنهم في الميزان الاستراتيجي الدولي وزنهم خفيف جداً وغير ملحوظ، بالكاد يوازي أخف أوزان القوى على المسرح الدولي، وهذه الدول إما لها أراض محتلة، أو حقوق مائية غير قادرة على تحصيلها، أو تتحكم بها مليشيات محلية أو عابرة، كما أن لكل دولة علاقات خاصة مع طرف دولي، أساسها طلب الحماية، أو الحصول على مساعدات اقتصادية، في مقابل علاقات قائمة على الشك، أو متوترة وعدائية مع طرف أو أطراف عربية.
لقد هيأت الحرب على غزّة، في ظل تعاطف الرأي العام العالمي، والانقسامات الشديدة في المجتمع الدولي، فرصة كان من الممكن استثمارها عربياً، من خلال الارتقاء إلى مستوى الحدث، والتقدم بلائحة مطالب مسنودة بأوراق قوّة فعلية، ولكن في ظل واقع الضعف والهوان العربي، فإن مخرجات قمة المنامة الإنشائية تبدو كثيرة على العرب.