عبّاس كايروستامي وقراءة الحشود

12 أكتوبر 2023
+ الخط -

قادني، من دون أن يدري المخرج الراحل الكبير عبّاس كايروستامي، المتعدّد الاهتمامات، في مجال الأوبرا والفوتوغرافيا والإخراج السينمائي والشعر، إلى هواية تأمل (وقراءة) الوجوه في الحشود، كملاعب كرة القدم والمظاهرات والثورات، وحتى بعض الملامح في الفوتوغرافيا القديمة ودلالاتها.

قراءة الوجوه والحركات العصبيّة في "الذّكْر" المصري، أو في ملاعب كرة القدم المصرية، ودلالة الحركات ورمزيتها، سواء اللسان أو الإصبع، كما حدث بعد ذلك، ورغم وقاحة الدلالة تلك، تم ابتلاعها بسهولة ويسر من عتاة المتربّصين من المثقفين. وقيمة صدق جوه المتظاهرين الحقيقيين تخرج من عفويّتها وعمقها. أما من نال الأجر والعرق فحدّث ولا حرج، وهي من الأشياء المضحكة التي لا تحتاج سوى الضحك، وتلك كارثة أخرى لم يسلّط عليها الضوء الكاشف لحقيقتها، مع فرش الملاءة بالطبع ورفع الشباشب، والنظّارات السوداء علاوة على الجلسرين، فهل لو طاف عبّاس كايروستامي بموالد الصعيد كان قد خرج بمحصلةٍ لا يستهان بها من دلالاتها؟

ها هو "الذّكْر" أمامي منصوبا، ومن خلاله أصل بسهولة إلى المهج والأرواح الهائمة، من خلال الحركات وعفويتها بلا ترتيب أو تمظهر أو دموع تتم مداعبتها للحضور بالزغزغة والحركات على مسرحٍ معدّ سلفا. ولكن هذا في الذكر، مسرح فِطري من الغناء والتطوّحات والوجد؛ ومن خلال براءة اللقطة أو الصورة تعرف بسهولة تامة الفارق في الذّكْر ما بين الدعيّ وابن الغرام، رغم أنه حتى في الذّكْر ورغم التطوّحات يقول المعلم في مهنته، جزّارا أو بنّاء، أنا معلم أيضا في الجلباب، حتى الكريم لا يفارقه كرمه، وتكاد رائحة البخيل ترى، فأي هديةٍ كريمةٍ أهداني إياها الراحل كايروستامي، رغم أنه رحل من سنوات قليلة. وأنا هنا أتابع الذّكْر بروحه الهادئة وأتابع روحه في قراه الجبلية في شمال إيران من دون أن يدّعي بطولة أو يعارك من المنفى، وظل بجوار القرى المعلقة بالجبال.

ليست حالة بالطبع سهلة على فنان حسّاس، فتح له العالم قلبه، ونالت أفلامه السعفة الذهبية، وظلّ كما هو في جباله وميادينه وأفلامه، كان عبّاس كايروستامي ينظر إلى واقع الإنسان بعين الخيال، وينظر إلى الخيال بعين الواقع، ويدمج الاثنين معا، الواقع والخيال في جديلة واحدة متماسكة، وكأن لا الواقع مستبعد أن يكون خيالا، ولا حتى الخيال مستبعد أن يكون واقعا في يومٍ ما، حتي محن الإنسان، كان ينظر إليها مخفّفا منها في يوم ما قد يأتي عليها وينساها أو يتكيّف تماما مع آثارها القاسية، كالزلازل، والفشل في الحب والأعاصير، ... إلخ، وبنى ثلاثيته السينمائية "ثلاثية كوكر" على زلزال إيران الشهير في سنة 1990، كان ينظر إلى الإمكانية الكامنة في الحياة والقلب والإنسان والرحلة، مخفّفا من هول مأساة الإنسان على الأرض، وكأنه يبتسم للأقدار بهدوء أو حتى بسخرية غير مصرّح بإعلانها أبدا، كي يصنع أمله الخاص أو أمل شخوصه، حتى تكتمل الرحلة بهدوء، رحلة الحياة، وكأن هناك "شاعرية ما" وراء كل مغامرة، شعر لا يكاد يبين، شعر غير مراهن عليه، ولكنه يأتي إلى المشهد جبْرا، لا بحكم الصناعة، ولكن بحكم الإرادة في الاستمرار الذي لا مناص منه.

هل ذلك كله جعله ينظر إلى عفوية أي حضور للجموع والحشود بعين الدهشة، بعين الشعر، الشعر الذي يراقب، ويكاد يلمس لمسا، لولا خيانة الصنعة في الصورة، أو التحريض، أو التسييس، الذي كثيرا ما يُفسد الصنعة ويحوّلها إلى "فضيحة معلنة" من دون أن يخجل الصانع أو المحرّض بالطبع، لأن ذلك هو سر صناعة "طبخة السم". قال عنه المخرج العبقري مارتن سكورسيزي: "يعدّ كايروستامي من أفضل السينمائيين الأحياء في العالم". وقال عنه المخرج الياباني الكبير آكيرا كورساوا: "تعجز الكلمات عن وصف شعوري بهذه الأفلام. حين رحل ساتياجيت راي، شعرت بانهيار شديد، ولكن بعد ما شاهدت أفلام كايروستامي، شكرت ربي على كونه أعطانا الشخص المناسب ليأخذ مكانه"، ذلك هو المندهش دائما أمام تأويلات الحشود وتعبيراتها، هو المخرج الإيراني الراحل الكبير عباس كايروستامي، صاحب فيلم "طعم الكرز"، والذي نال عنه جائزة السعفة الذهبية، "وأين منزل الصديق؟"، وهو قطعة من الجمال فوق أعالي جبال إيران، وهو الذي حوّل زلزال إيران الشهير إلى ثلاثية رائعة "ثلاثية كوكر"، كي يخلط فيها المأساة بالنسيان والأمل بالواقع، فيلتقي الحبيب بالحبيبة، بعد الزلزال، لا في عشّ الحب، ولكن ككومبارس في فيلم سينمائي، كعزاء على الفشل وسخرية أيضا، كي يستوفي الأمل شروطه فوق الأرض، ولو حتى في شريط سينمائي.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري