عالم رجراج
إزاء المعسكريْن، الرأسمالي والاشتراكي، اللذيْن كانا قائميْن في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهي نفسها الفترة التي عرفت بفترة الحرب الباردة، نشأ مصطلح "العالم الثالث" الذي تحته كانت تُدرج كل الدول غير الداخلة في التبويب الثنائي الذي أطّره حلفان عسكريان، "ناتو" و"وارسو".
بعد انتهاء القطبية الثنائية بانهيار المعسكر الاشتراكي وتفكّك قوّته الرئيسة، الاتحاد السوفييتي، إلى مجموعة من الجمهوريات متفاوتة الأهواء السياسية، وانفراد المعكسر الغربي بتسيير شؤون العالم، صحّ السؤال عن مصير ما كان يعرف بالعالم الثالث، الواقعة دوله في ثلاث قارّات رئيسية: آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية؟.
وعلى هذا السؤال يترتب سؤال لا يقلّ أهمية: أين نضع الدول التي كانت في عداد المعسكر الاشتراكي، أتكون بانضمام كثير منها في الاتحاد الأوروبي، وحتى في حلف "ناتو"، قد انضمّت بشكل تلقائي إلى العالم الوحيد الباقي من معسكري الحرب الباردة، وهل سيسمح بذلك أغنياء أوروبا وهم الذين يضيقون ذرعا حتى باليونان وتركيا والبرتغال وإسبانيا، حلفائهم في السياسة والعسكرة، ويروْن فيها "ريف أوروبا"؟، خاصة أن أغنياء أوروبا يدركون مستلزمات تأهيل الاعضاء الجدد لدخول أوروبا "الغنيّة"؟
ولأن السؤال يجرّ السؤال: ما عساه يكون تصنيف الجمهوريات الإسلامية في وسط آسيا التي كانت في عداد الاتحاد السوفييتي، فإذا كان الغرب قد قبل في ناديه جمهوريات البلطيق الثلاث: لاتفيا وإستونيا وليتوانيا صغيرة المساحة وقليلة السكان، فهل ستتحوّل جمهوريات آسيا الوسطى وما وراء القوقاز إلى جزءٍ مما كان يعرف بـ"العالم الثالث"، أخذاً بالاعتبار مقادير الروابط التاريخية التي تشدّها إلى العالم الاسلامي؟
المستجدّات الراهنة في أوروبا، وربما في الولايات المتحدة نفسها في حال قُدّر للمرشّح الجمهوري دونالد ترامب الفوز في الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، تطرح سؤالاً جديداً، غير مسبوق، مبنيّاً على الصعود المُدوي للتيارات اليمينية الشعبوية التي بلغت الحكم في بعض بلدان أوروبا، وعلى وشك أن تبلغه في بلدانٍ أخرى، حيث إنها تطرح أجندة مختلفة، لها انعكاساتها لا على الصعيد الأوروبي وحده، وإنما على صعيد الاستقطابات العالمية التي بُنيت على أساسها سياسة المعسكرين أو المعسكر الواحد؟
في أوروبا اليوم حرب فاصلة، هي الجارية بين روسيا وأوكرانيا، من الصعب الجزم بالسيناريو الذي ستنتهي به، بوجود أجندتيْن نقيضتيْن في صراعٍ دامٍ، أجندة الرئيس الروسي بوتين الذي يريد استعادة قوّة روسيا ومهابتها العالمية التي كانت لها في العهد السوفييتي، وتأتي استعادة ما يعتبره أراضي روسية سلّمها البلاشفة لأوكرانيا، في سياق هذا السعي، خاصة مع توجه حلف الناتو لجعل أوكرانيا حديقةً خلفيةً له في مواجهة روسيا، أما الأجنده الثانية فهي تلك التي يعمل الغرب اليوم على تنفيذها، بالسعي إلى تحويل حرب أوكرانيا مبارزة طويلة الأمد لاستنزاف روسيا وإضعافها وإخراجها من الحرب خاسرة، عبر مدّ كييف بالأسلحة المتطوّرة والخبراء والمستشارين، ورفع القيود عنها في استخدام هذه الأسلحة لاستهداف الأراضي الروسية.
سيقرّر مصير هذه الحرب أموراً كثيرة في مستقبل العالم القريب، وربما البعيد، من دون إغفال أن قوى دولية وازنة أخرى، غير الغرب، لا تريد لروسيا أن تهزم في حرب أوكرانيا. نتيجة لا تريدها دولة عظمى مثل الصين، الساعية، ولكن من دون ضجيج، لتشكيل عالم جديد متعدّد الأقطاب، تكون لها فيه يد طولى، وهي تدرك أن ذلك متعذّر لو هزمت روسيا، ولا يقلّ أهميّة عن ذلك أن أي نجاحٍ تُحرزه دول الناتو في الحرب مع روسيا سيدفعها إلى التعجيل بمعركة مؤجلة مع بكين ستكون تايوان ساحتها.
ما كان يعرف "العالم الثالث" بات اليوم مُدرجاً في خانة الجنوب. هكذا أصبح العالم يقسم بين شمال وجنوب، وهو تقسيمٌ لا يخلو من الاعتباطية، إلا إذا كان المُراد به مدلولاً جغرافياً فقط، لأن في هذا الجنوب حزمة من التباينات والتناقضات، شديدة الارتباط بالتحوّلات الجارية في العالم. لكن في وسعنا الاستدراك هنا بالقول إنّه أذا اعتبرنا الموقف من حرب أوكرانيا معياراً، فعلينا ملاحظة أنّ أهم دول الجنوب، حتى لو لم تعلن تأييدها روسيا في هذه الحرب، تحاشت الوقوف ضدها، رافضة السردية الغربية، "فيما تنظر دولة بأهمية الصين إلى الجنوب العالمي على أنه شريك في تحدّي النظام العالمي الحالي الذي تقوده الولايات المتحدة"، كما يذهب إلى ذلك محلّل روسي.