عائدة إلى بكّين
تمضين ساعات طوالاَ في قاعة الترانزيت في مطار دبي، تنتظرين موعد الطائرة التي ستأخذك بعيدا. تفكّرين برعب وتوجّس: كم هي بعيدة المسافة من عمّان إلى بكين. تنتابك بين حين وآخر مشاعر الندم لموافقتك على الدعوة للمشاركة في دورة ثقافية طويلة، تتمنّين وهلة لو أنك ما زلتِ في البيت، مرتدية منامتك الفضفاضة، تتابعين مسلسلا تلفزيونيا مثيرا للجدل، وتسيرين حافية القدمين، تعدّين قهوتك ببنّها الثقيل في ارتياح تام، تقرّعك نفسُك اللوامة قائلة بغضب: توقّفي عن هذا النزق، أيتها الحمقاء الكسولة المسافرة، وزادك ضجر كثير تراكم في روحك المتعبة جرّاء التكرار الذي أحاط مفاصل حياتك برمتها، فتعطّلت فيك القدرة على الدهشة والاندفاع والرعونة التي طالما ميّزتك، قبل أن ترضخي صاغرةً لشرط عزلتك.
ابتعدتِ عن إصرار وتصميم عن الآخرين، ولذتِ بالوحدة، بعد سلسلةٍ من خيباتٍ تمقتين تذكّر مبعثها، واستكنتِ إلى كآبةٍ خفيةٍ تنطوي على سلامٍ داخلي غامض، لا يُدركه حتى أقرب الناس. تخلصتِ تماما من مشاعر القلق، بعد تيقنك الكلي من أن لا جديد تحت الشمس. الأمس مثل اليوم، والغد متوقع مثل نشرة الطقس. تتفادين النظر إلى ساعة يدك أو هاتفك الجوّال. تقرّرين أن تستسلمي مبكرا، ومن دون أدنى مكابرة، لحكم الزمن. تدركين أن ليس أمامك سوى التحايل على الوقت الذي يمرّ بطيئا أكثر مما تتوقّعين. تواسين نفسك بفكرة أن الوقت مشروع ضحية مهيّأة للتعرض للقتل بكل سهولة، مشاهدة فيلم مثلا، قراءة رواية ممتعة، أو اجراء حوار طويل مع المسافرة البلغارية التي تجلس بجوارك لحسن الحظ، فإنها فضولية بما يكفي، كي تتمكّني من اختلاق قصة مغايرة عن حياتك، لا تخلو من الأحداث الشائقة المختلفة عن إيقاع حياتك الرتيبة الخالية من البهجة.
تطمئنين إلى أن أحدا لن يحاسبك ولن يدقق في كلامك. لطالما أحببتِ هذه اللعبة الماكرة التي تلجئين إليها في أسفارك، وهي الكفيلة بقتل الوقت، كلما جمح خيالُك أكثر. تقتلينه بأكاذيبك المجّانية غير مأسوف عليه، وتساعدين الجارة الفضولية المتعطّشة للحوار. من يدري، لعلها تكذب هي الأخرى، تتواطآن على ذلك، وتبدّدان معا عبء الانتظار. تعرفين أن العزاء الأكبر الذي قد تمنحينه لنفسك هو الاعتراف بأن زيارة الصين مغامرةٌ بحد ذاتها. لا بد أن الجميع حذروك من الطعام الصيني سيئ المذاق، وتنبيهك إلى أنهم يقدّمون لحم القطط والكلاب لضيوفهم. ولأنها ليست زيارتك الأولى، فإنك تعرفين أن ذلك صورة نمطية تكرّست عن الصين. وما إن تحطّي الرحال في مطار بكين، حتى يتغيّر مزاجك على الفور.
تصلين إلى مقرّ إقامتك المحاط بالأشجار الباسقة المكتظّة بأعشاش طيور نادرة. تصلين منهكةً من وعثاء السفر، غير أن حالة من البهجة تسيطر على حواسّك، تروق لك حالة الانقطاع الجبرية، لأن مواقع التواصل المألوفة غير متوفّرة. وبالتالي، عليك التوقّف عن عادة تفقّد الهاتف الجوّال في كل لحظة. في بكين، أنتِ مثل جنرال ماركيز "ليس لديك من يكاتبك". لا رسائل عاجلة ولا "ترندات" مكتسحة ولا متابعة لخناقات حامية بين صديقين اختلفا في شأنٍ ما، ولا حتى كتب مسموعة أو محاضرات على قنوات يوتيوب تُساعدك، في العادة، على النوم، محتشدة بأفكار لا تخصّك، غير أنها كفيلة بحمايتك من سيل أفكارك غير السارّة بالضرورة.
هنا تجدين نفسك في مواجهةٍ كبرى مع ذاتك، مجرّدة من الإكسسوارت الافتراضية الضبابية التي تعيق الرؤية. ومن هذه النقطة بالذات، قد تبدأ الرحلة باتجاه الحقيقة.