ضمّة بقدونس في سوق معرتمصرين
قرأت قبل أيام خبراً ملفتاً، ملخصه أن حكومة الإنقاذ، التابعة لهيئة تحرير الشام، في إدلب، قد شكّلت لجاناً تموينية تجول على المحلات التجارية في مدن المحافظة، لضبط الأسعار، ومراقبة صلاحية المنتجات، وإجراء الضبوط التموينية بحق المخالفين. طرافة الخبر تأتي من أن حكومة الأمر الواقع هذه، المعادية لنظام الأسد، استنسخت نظامَ الأسد التمويني الذي لا يوجد أسوأ منه في العالم، وهو نظام قائم على شطب أبسط قوانين السوق القائل إن سعر السلعة يتحدّد بـ "العرض والطلب"، ووضع سعرٍ للسلعة أقل من سعرها الحقيقي، ما يعني إجبار مُنْتِجِها على تكبّد الخسارة، تحقيقاً لشعاراتٍ كاذبة كـ "حماية المستهلك"، والوقوف إلى جانب العمال والفلاحين وصغار الكسبة، وبعد ذلك يُفلت على صغار الباعة جيشاً من المراقبين التموينيين، لإجبارهم على البيع بهذا السعر الخاطئ، تحت طائلة تحرير ضبطٍ يوصِل صاحبه إلى السجن، ويجبره على دفع غرامات موجعة.
في أيام الأسد الأول، ثم الأسد الثاني، كنا نرى، بأمهات أعيننا، كيف يكون سوق البيع والشراء في أوج اشتعاله، وفجأة تضطرب الحركة، مع سماع أصواتٍ متتاليةٍ تصيح "عباية"، ومَن كان يبيع في دكانه يقفلها على عجل. أما أصحاب البسطات فيحملونها كيفما اتفق، ويهربون في اتجاهٍ ربما رسموه في مخيلاتهم قبل نزولهم إلى السوق. وما هي إلا دقائق قليلة حتى يصبح السوق قاعاً صفصفاً، ورجال التموين يخترقونه، ويسيطرون على الأشخاص ذوي السمع الثقيل الذين لم يسمعوا صرخة "عباية"، أو أصحاب الأدمغة الناشفة الذين يصرّون على فتح دكاكينهم بحجة أنه لا يخالفون النظام، فمم يخافون؟ ومم يهربون؟ ولكن حساب الصندوق، كما يقول أهلنا، لا ينطبق على الصندوق، فعناصر دوريات التموين لا يشترون تطبيق القانون والنظام بقرش. وعندما يقفون عند باب دكان أحدهم، يسألونه لماذا لا يعلق التسعيرة فوق المواد المعروضة؟ وإذا كانت معلقةً يسألونه لماذا لونُها باهت؟ وقد يدخل أحد العناصر إلى الداخل، ويقتلع اللصاقات عن بعض السلع المعروضة، ويقول للبائع: أمسكناك بالجرم المشهود، بضاعتك مخالفة.
ومما يروى عن رجال التموين إن الواحد منهم لا يقبل أن يشتري ضمّة بقدونس قيمتها خمس ليرات، إذا لم يدفع ثمنها أمام الناس، وعلى الملأ. ولولا الحياء والخجل لأحضر طبالاً وزماراً وكاميرا تلفزيونية تصوّره وهو يدفع لبائع البقدونس ثمن الضمّة مائةَ ليرة قطعة واحدة، وينتظر قليلاً حتى يستلم منه تتمة المبلغ ويضعها في جيبه .. وبعد مغادرته يقول له البائع المسكين، بصوت واطئ، إن شاء الله تصرفها على الأطباء والصيادلة ومخابر التحليل. ويتحدّث البائعون، فيما بينهم، بعد ابتعاد العنصر الحقير عن دكانه، إنه استلم المائة ليرة، وأعطاه خمسمئة ليرة على أنها التتمة، والعنصر يبتعد قليلاً عن السوق، ويتفقد التتمة، فإن لم تكن مرضيةً، يعود إليه ويحرّر بحقه ضبطاً يذهب بموجبه إلى محكمة الأمن الاقتصادي، بموجب حكم عرفيٍّ مدته ستة أشهر.
النظام السوري هو الوحيد في العالم الذي يطبق على المخالفات التموينية نظام الأحكام العرفية، وهي محاكم خاصّة، لا يحق للقضاء العادي التدخل فيها، ولا يوجد فيها محامون وأخذ ورد ومرافعات ودفاع عن النفس. ولذلك يضطر بائع البقدونس أو الفجل أو الكلاسين الداخلية الذي تعرضَ لضبط تمويني أن يدفع ما فوقه وما تحته على هيئة رشاوى، حتى يصل إلى ابن رئيس مكتب الأحكام العرفية الذي افتتح مكتباً خاصاً لمثل هذه الوساطات، فإن لم يدفع يُسجن، وتُدَمَّر أسرته في غيابه، وبعد عودته يجد نفسه وقد اكتسب لقباً يمنع الناس من الشراء من عنده. أما إذا دفع، فإنه يعود مرفوع الجبين، والكل يعرف أن الـ خمس ليرات التي يأخذها ثمن ضمّة بقدونس، تمثل السعر الذي ترضى عنه وزارة التموين في حكومة آل الأسد.