ضربتا جزاء في روايتيْن

25 نوفمبر 2022
+ الخط -

"...، أهناك عذابٌ أشدّ، ووحشةٌ أقسى من عذاب حارس المرمى، ووحشته الكونية، أمام ضربة جزاء؟ و: أهناك ضغطٌ نفسيٌّ أثقلُ من ضغط الوقوف الدقيق على وتر النجاح أو الفشل، والتحكّم بمصير الأمة المعنوي، حين يقف الهدّاف الماهر لتسديد ضربة الجزاء؟" ...". .. أظنّه على حقّ، محمود درويش، في سؤاليْه هذين (في مقالته عن مارادونا صيف 1986). يحسُن استدعاؤهما، ونحن، في هذه الأيام، نخافُ على الفرق العربية المتنافسة في مونديال قطر، والأخرى التي نحبّها، من ضربات الجزاء، ونسعَد بحارس المرمى عندما يتلقّى الكرة فيها، ونعدّ براعتَه في هذا إنجازا مظفّرا، ونتعاطَف معه عندما لا يسَعُه الحال. والظاهر أنه إذا صحّ أن حارس المرمى، في العادة، غالبا ما يكون الأقلّ شهرةً بين أعضاء فريقه، على ما كتب صحافي كرة القدم، الإنكليزي جوناثان ويلسون، في كتابه "اللامنتمي: تاريخ حارس المرمى" (2012)، فإن هذا ربما لم يعُد دقيقا، بعد المباريات التي انتظمَت، حتى اللحظة، في المونديال البهيج في ملاعب الخور ولوسيل والوكرة والدوحة في قطر، فقد تألّق حارس مرمى الفريق السعودي محمد العويس، ونظيراه شويشي جوندا وأندريس نوبرت في فريقي اليابان وهولندا (وغيرهم)، ما يجعلنا نُشهر القول إن إسهاما بديعا لثلاثتهم في أن تفوز فرقهم على الأرجنتين وألمانيا والسنغال.

حارس المرمى الذي يرتدي قميصا أصفر زاهيا، في رواية حائز جائزة نوبل للآداب (2019)، بيتر هاندكه، "خوف حارس المرمى عند ضربة الجزاء" (ترجمة صالح الأشمر، منشورات الجمل، بيروت، بغداد، 2017)، بارعٌ أيضا، كما الثلاثة أعلاه (وغيرُهم). يتلقّى بيديه الكرة التي ركلها المهاجم بضربة جزاء. لا يعرّفنا الكاتب الألماني باسمِه، ولا بفريقي مباراة كرة القدم التي يتنافسان فيها، في أثناء مجرى الرواية، قليلة الصفحات (106)، فالمباراة ليست واقعةً مركزيةً في سرد الشخصيّة الرئيسية، عامل التركيبات جوزف بلوخ، حارس المرمى السابق في فريق نمساوي، مشاهداتِه في بعض نهارٍ يُمضيه في مدينةٍٍ لا يسمّيها هاندكه أيضا. يجلس في مقهى ويجول في الشوارع ويركب الترام، ويشاهد فيلما ويدردش مع بائعة التذاكر في السينما، ويدخل ملعب كرة القدم، ويتابع شيئا من المباراة واقفا، ويخرُج منها قبل صافرة النهاية. وتكتمل الرواية التي بلا أحداثٍ تقريبا بحديث بلوخ إلى مندوب مبيعاتٍ عمّا يفكر فيه حارس المرمى عندما يصوِّب عليه المهاجم ضربة الجزاء.

يكترث الجزائري رشيد بوجدرة بالمباراة التي يتابعها بطل روايته "ضربة جزاء" (صدرت بالعربية في 1985، بترجمة مرزاق بقطاش من الفرنسية، وتغييره اسمَها "الفائز بالكأس"). يتنافس فيها فريقان فرنسيان على كأس فرنسا في ملعبٍ في باريس، في مايو/ أيار 1957. يتقاطع مونولوغ بطل الرواية وحكيُه مع ما يدلي به معلقٌ رياضيٌّ على مدار المباراة، في تناوبٍ ظاهرٍ بينهما أحيانا، يتداخل فيه، في مقاطع غير قليلة، صوتا البطل والكاتب المؤلف. تقرأ وتُعاين نفسَك قدّام مباراة كرة القدم، سيما وأن بوجدرة عنونَ فصول الرواية بالأهداف التي كانت تمضي فيها المباراة. ولكن الجوهري، في الأثناء، أن المباراة هنا أرضيةٌ (أو ملعبٌ؟) لحكايةٍ أخرى إن صحّ التقدير، حكاية فدائيٍّ جزائريٍّ يريد قتل عميلٍ من بلاده لفرنسا، بتكليف من منظمة ينتسب إليها. يُرمى الباشاغا محمد مشكال برصاصةٍ ويُقتل، مع صافرة نهاية المباراة، ما سيعني، إيحاءً ليس مستترا تماما، أن ضربة الجزاء هي هذه. ثمّة استعاريةٌ هنا أتقنها المترجم، وثمّة استعاريةٌ أتقنها صاحب النص، رشيد بوجدرة، عندما أوحى بأن كأس فرنسا أحرزه قاتل الباشاغا. وصنَع، في الوقت نفسه، التباسا مراوِغا، عندما جعل المسدّس في جيب الفدائي (اسمه الحركي ستالين!) من دون أن تُطلَق منه الرصاصة التي قتلت "صديقا آخر من أصدقاء فرنسا"، بحسب ما يحدّث السارد نفسه، في السجن، بعد تحقيق معه.

ثمّة شحنةٌ من السياسي، الوطني على نحوٍ واضح، في إيقاع روايةٍ، ثقيلة المعاني والمغازي، بوقائع كثيرة مستدعاةٍ من ماضِ وذاكرة، وأخرى راهنةٍ في لحظتها، كأنها روايةٌ معنيّةٌ بمقطعٍ من مقاومة الجزائريين المحتل الفرنسي، وليس تماما بكرة القدم التي تُستعار من قاموسها تسميةُ ضربة الجزاء لتكون جزاء العميل، على غير ضربة الجزاء في روايةٍ خفيفة الظل، ورهيفة، كتبها بيتر هاندكة بلا مغازٍ ولا معانٍ، بل تكاد تكون بلا وقائع .. أما ضربات الجزاء في مونديال قطر فقصةٌ أخرى، طبعا وبداهة، إنها كما التي كتب عنها محمود درويش ما كتب.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.