ضد الديمقراطية نكاية في الإسلاميين
منذ بزوغ فجر الربيع العربي، وإطاحته أعتى الديكتاتوريات العربية، برز إلى الوجود خطاب إقصائي يندب حظ الشعوب العربية، باختيارها ما تسمّى الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية للوصول إلى السلطة. أسقطت الثورات أنظمة، وأجبرت أخرى على القيام إما بإصلاحات داخلية لإرضاء الشعب وامتصاص غضبه، أو تغييرات شكلية للاحتيال على مطالبه في انتظار فتور الحراك وعودة الهدوء. هكذا اختار الشعب المصري حزب الحرية والعدالة، واختار الشعب التونسي حركة النهضة، واختار الشعب المغربي حزب العدالة والتنمية. أما الشعوب الأخرى فقد أجهضت ثوراتها وتحولت إلى حروب أهلية، أتت على الأخضر واليابس.
مع بدء الثورة المضادة، والتي من الطبيعي أن يهلل لها فلول الأنظمة السابقة ومن والاهم، يتفاجأ المرء بابتهاج مثقفين ومناضلين وسياسيين عديدين، منتمين إلى بعض التيارات التقدمية والليبرالية والتحرّرية التي قضت أغلب حياتها مناضلة ومنافحة من أجل الديمقراطية والدفاع عن الحرية والعدالة والكرامة، وهم الذين لهم باع كبير في النضال والكفاح، حيث لم يألوا أي جهد في القيام بمعارضة الأنظمة القائمة للمطالبة بالإصلاحات السياسية، ودفعوا جرّاء مواقفهم التضحيات الجمّة، بل زُجَّ بعضهم في غياهب السجون، حتى خرج بشهادة النضال مطبوعة فوق جبينه.
هم المناضلون. أما وقد حان وقت قطف ثمار نضالهم، فلا يجوز أن يكونوا في الخلف، بل في المقدمة، فهم من أيقظ الشعب من سباته. رفضوا الظلم والطغيان في حينه وأوانه، نادوا بالحرية والتحرّر من كل القيود، أيرضون اليوم أن يكون غيرهم من يقود التجربة بعد التحرّر من الطغيان والاستبداد، لا سيما أن هذا الغير، حسب قولهم، يستعمل مبدأ التقية، ولديه خطاب مزدوج، يؤمن بالديمقراطية فقط آلية انتخابيةً، ووسيلةً آنية للوصول إلى الحكم، وليس مفهوما شاملا ومبدأ عاما، وسيأتي زمن ليحكمهم باسم الدين، وليلزمهم بالتعاليم، ويجبرهم على احترام النصوص الشرعية قبل احترام القانون.
هُم المكافحون التحرّريون، ولا يمكن أن يرضوا فقط بدرجة رقيب، كيف للثورة أن تُخطَف من أيديهم هكذا، وهم الذين لطالما منَّوا أنفسهم بحلم السلطة، وتكبّدوا الصعاب من أجل بلوغها، أيتركونها اليوم بأيدي رجالٍ يعتبرونهم "ظلاميين"، و"ماضويين"، لم يكن كثيرون منهم يؤمن بالديمقراطية البتة، بل كان يعتبرها دخيلة إن لم يعتبرها كفرا، لأنها تناقض مبدأ الحاكمية لله وتعطي التفويض للشعب، كيف لهم أن يمتطوا حصانها اليوم، ويمسكوا بزمامه، تبّا لهم، وللديمقراطية التي أتت بهم.
حكم الإسلاميون في بعض البلدان ظاهريا وبقيت السلطة بأيدي الدولة العميقة فعليا، رضخوا لها وأذعنوا، ظنا منهم أنها ستعترف لهم يوما بجميل صنعهم
كثيرة هي الذرائع التي يمكن تقديمها لرفض الإسلاميين، وعديدة البراهين التي يمكن أن تؤخذ من أدبياتهم وكتاباتهم للدلالة على ما ذُكر، وكبيرة الاتهامات التي يمكن أن توجّه إليهم، وإذا أضفنا إلى كل هذا قوة الإعلام المضاد، وتأزم الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وتأثير الغرب المعادي لثوراتٍ لا تخدم مصالحه، وأخطاء الإسلاميين في تحالفاتهم وفي سلوكياتهم السياسية، نكون قد جمعنا كل مكوّنات طبخة الثورة المضادّة، توابلها تصريحاتٌ غير مدروسة ومواقف غير مفهومة، وبهاراتها عدم خبرة واضحة، وقلة كفاءة فاضحة وأداء باهت، ليُطهى "طجين" النكوص والانقلاب على نار هادئة خافتة، ولينضُج ولو بعد حين.
لم يستطع الإسلاميون أن يشكّلوا تحالفاتٍ قويةً مبنيةً على تقاطع في الرؤى، وتقاسم في الأفكار والآراء، بلْهَ في البرامج والمقترحات. لم يتمكّنوا من لفّ الناس حولهم، وتكوين جبهاتٍ سياسيةٍ عريضة ومتماسكة. أقصى ما حققوه تحالفاتٍ هجينة وتوافقات مرحلية قصيرة، لربما صادقة من طرفهم، لكنها انتهازية ووصولية من طرف غيرهم، التفّوا حولهم طمعا لا رغبا، جشعا لا قناعة، انتفاعا لا اقتناعا، وأخيرا اضطرارا لا رضا، يظهرون وُدّا ويضمرون حقدا.
استغل الخصوم الإسلاميين منفذاً إلى السلطة، وصولاً إلى المناصب وتحقيقاً للمآرب
استغلهم خصومُهم منفذا إلى السلطة، وصولا إلى المناصب وتحقيقا للمآرب، في انتظار أفول نجمهم وتراجع مكانتهم، وتبيان عدم قدرتهم على الإصلاح والتغيير، وعلى مكافحة الظلم والفساد، وعجزهم عن ضمان الحرية والكرامة، وعلى تحقيق التنمية والرخاء للمواطن البسيط البئيس. وهذا ما وقع لبعضهم، فقد تحمّلوا المسؤولية وخيبوا الآمال. حكموا ظاهريا وبقيت السلطة بأيدي الدولة العميقة فعليا، رضخوا لها وأذعنوا، ظنا منهم أنها ستعترف لهم يوما بجميل صنعهم، وستجازيهم على معروفهم، لكنها حفاظا على مواقعها ومصالحها لا تجازي إلا "جزاء سنمار".
فطنت الطبقة السياسية إلى رغبة الإسلاميين في البقاء في السلطة، والمكوث في تمثيلية الحكم، ولو في دور الكومبارس لما ظهر شبقهم. كبست عليهم مرة فتنازلوا، ثم ضغطت عليهم ثانية فتراجعوا، ثم ضغطت فتخلّوا، ثم ورّطتهم وانصرفت منادية. لقد انفضح أمر هؤلاء، وظهر عجزهم، ولا طائل من ورائهم، وكل ما تحقق هو بفضلنا لا بوجودهم، فانفضّ أولا من انتظر تنفيذ الوعود وتحقيق الشعارات، ثم انفضّ ثانيا من تعب من كثرة الخلاف وضعف الإنجازات، ثم انفضّ أخيرا من خاب ظنه وعيل صبره وشك في صواب الاختيارات. كثر الغاضبون وفرح الشامتون، وقيل نحن ضد الديمقراطية نكاية في الإسلاميين.