صندوق النقد الدولي وهذه الشعارات

05 مايو 2023
+ الخط -

لا تزال الدول العربية التي تعاني أزمات اقتصادية تستجدي المنظومة المالية الدولية للحصول على قروض تغطّي بها عجزها المالي وتسدّ ثغرات ميزانياتها المتهالكة. ليس الأمر بالشيء الطارئ أو العارض، فغالبية الدول اقترضت من البنوك الدولية، وقدّمت التنازلات التي تشترطها هذه الكيانات المالية الكبرى، غير أن ما يصنع الفارق بين دولة وأخرى طريقة التعامل مع هذه البنوك وحُسن توظيف القروض، بما يمنح اقتصاد الدولة المستدينة القدرة على بناء مصادر للإنتاج والتطوير للتحرّر من ربقة الضغط الذي تمارسه هذه البنوك.

ليس جديدا القول إن البنوك والمؤسّسات المالية الدولية ليست منظمات للعمل الخيري، ولا تمنح قروضها لمجرّد المساعدة والدعم، وإنما هي جزء من النظام الرأسمالي الدولي الذي يبحث عن الربح وعن الهيمنة عبر إخضاع اقتصاديات الدول المتخلفة أو الدول السائرة في طريق النمو كما يحلو لبعضهم تسميتها. وبقدر ما تمثل القروض الدولية حلّا للأزمات الطارئة التي تعانيها هذه الدول، إلا أن هذا لا يخفي الأزمات الهيكلية التي تعاني منها وتجعلها تنخرط ضمن حلقةٍ مفرغةٍ من الاستدانة المستمرّة من دون التقدّم نحو بناء اقتصاد منتج يؤمل منه الخروج من حالة التداين المستمر.

يتصرّف صندوق النقد الدولي والمؤسّسات الموازية له، مثل البنك الدولي، ضمن إطار عام يقوم على فكرة مساعدة الدول المتخلفة للخروج من أزماتها، وأنها ملتزمةٌ بتحقيق نتائج للبلدان النامية وتحسين حياة أشدّ الناس فقراً وضعفاً، غير أن هذا النوع من التوصيف لا يعدو أن يكون مجرّد شعاراتٍ جوفاء على ورقٍ فاخر نجدها دائما تتصدّر المواقع الإعلامية لهذه المؤسّسات، لأنها في الواقع تتعامل من خلال فرض شروطها التي تندرج ضمن ما تسمّيه الإصلاح الاقتصادي. وفي أحيانٍ كثيرة، تترافق الاشتراطات الاقتصادية مع أجندات سياسية خفية تظهر عند التعامل مع الأنظمة ذات التوجّهات الغامضة، والتي تحاول أن تظهر بصورة الدول ذات الاستقلالية على الأقل أمام شعوبها بما يخالف حقيقة الأمور.

تظل الشعارات دائما أمرا هامشيا في التعامل بين الصندوق والدول الراغبة في الاقتراض منه.

مثلما يضع صندوق النقد الدولي شروطه على طاولة المفاوضات بالتوازي مع شعاراته البرّاقة إعلاميا، فإن الأنظمة تمارس سياسات مماثلة، حيث تحاول ترضية الصندوق في الغرف المغلقة، فيما تعلن لشعوبها رفضها أي شروط دولية مقابل القروض التي تحصل عليها. والمؤسّسات المالية الدولية واعية بهذه الثنائية، أي المسافة الفاصلة بين الشعارات والواقع الفعلي. ولهذا تحاول ممارسة أكبر قدر من الضغوط من أجل أن تستجيب الأنظمة المستدينة لرؤيتها الاقتصادية وشروطها التي تعتبرها ضروريةً لأي عملية إصلاح اقتصادي وبناء نظام مالي يقوم على الحوكمة الرشيدة. ففي النموذج التونسي، ظلّ صندوق النقد الدولي يتمنع بشأن القرض الذي تطلبه الدولة التونسية منه. ورغم أن الحكومة التونسية لا تخفي، في لقاءاتها مع مسؤولي الصندوق، استعدادها للاستجابة للشروط التي يفرضها قبل أي قرض قادم، وهي شروطٌ مؤلمةٌ تتعلق برفع الدعم عن المواد الأساسية، وهو ما يعني تضرّر القطاع الأكبر من الشعب، بالإضافة إلى الشروط الأخرى المتعلقة بالعُملة وتقليص عدد موظفي الدولة وإحكام التصرّف في الموارد المالية، إلا أن ما يقابل الرغبة الحكومية الملحّة في إرضاء الصندوق هي التصريحات المتتالية لرئيس الجمهورية التي ينتقد فيها الصندوق، ويعلن رفضه شروطه، وهي لا تخرُج في الواقع عن أنها مجرّد تصريحات إعلامية لإرضاء الجمهور وإقناعه بقدرة البلاد على التعويل على نفسها من دون الحاجة إلى الاقتراض الخارجي، غير أن واقع الأزمة الاقتصادية وشعور الناس بها من خلال ندرة بعض المواد الأساسية وحالة التضخّم التي نجم عنها ارتفاعٌ متسارعٌ للأسعار تجعل من الصعب التصديق أن البلاد بإمكانها أن تخفّف وطأة أزمتها الاقتصادية من دون مساعدات خارجية.

لا يمكن إغفال العامل السياسي في كل مجال اقتصادي، فالاقتصاد، في النهاية، تعبير عن سياسة الدولة المالية وطريقة إدارتها الشأن العام، غير أن السياسة الشعبوية المفتقرة للوضوح قد تُرضي قسما من الجمهور، سواء من خلال شعارات الاكتفاء بالذات أو تحميل المعارضة السياسية مسؤولية الإخفاق الاقتصادي الحكومي، إلا أن هذا لا يحلّ المشكل على أرض الواقع، وهو ما يدركه صندوق النقد الدولي الذي يتلكأ في منح قرضٍ عاجلٍ لتونس أصبحت الحاجة إليه ملحّة، لأنه ببساطة يرغب في وضوح الموقف السياسي الرسمي، وأن تتفق كل المكونات الرسمية والمنظمّات النقابية والهيئات المدنية من أجل ضمان نجاح الإصلاحات الاقتصادية التي يدرك الصندوق قبل غيره أنها يُمكن أن تتعثّر أو توجِد حالة من الاحتقان الاجتماعي، بما يزيد في تأزيم الأوضاع. ومن الطبيعي أن رغبة صندوق النقد الدولي في ضمان نجاح الإصلاحات التي يفرضها لا تنبًع من شعاراته الجوفاء عن خدمة الإنسان وتوفير الرخاء الاقتصادي ونشر السلام بقدر ما يتعلق برغبته في ضمان استرداد أمواله. ولهذا تظل الشعارات دائما أمرا هامشيا في التعامل بين الصندوق والدول الراغبة في الاقتراض منه.

B4DD7175-6D7F-4D5A-BE47-7FF4A1811063
سمير حمدي

كاتب وباحث تونسي في الفكر السياسي، حاصل على الأستاذية في الفلسفة والعلوم الإنسانية من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس ـ تونس، نشرت مقالات ودراسات في عدة صحف ومجلات. وله كتب قيد النشر.