صليب صيدنايا... كيف ترتهن العمارة الإنسان؟

03 يناير 2025

صورة جوية لسجن صيدنايا في سورية (9/12/2024 الأناضول)

+ الخط -

تتكشف على الشاشات تراجيديا معاصرة بعد عقود خمسة من التعتيم الأسدي على أساليب التعذيب الممنهج الذي مورس بحق الإنسان السوري في سجون النظام الممتدة على طول الجغرافيا السورية. المأساة المتتالية المكثفة والمتكشّفة يومياً تتجاوز قدرة العقل البشري على الاستيعاب والتصور، إذ تختفي اللغة تماماً، وتحتقن المشاعر وتتكدّس في شِفاه السؤال الأكثر سذاجة وحضوراً عن حال أولئك الذين نجوا من السجون، هذا إن نجوا حقيقة! وعددهم يتجاوز عشرات الآلاف، فضلاً عن الذين سُلبت منهم عقولهم لهول ما عاشوا، أو الذين قتلوا تحت وطأة التعذيب أو الإهمال الصحي وظروف العيش السيئة في السجون، ويقدر عددهم منذ 2011 بأكثر من 53 ألفاً، فضلاً عن المفقودين الذين يتجاوز عددهم مائة ألف، حسب تصريح المرصد السوري لحقوق الإنسان في 21 ديسمبر/ كانون الأول 2024.
منذ سقوط نظام بشار الأسد في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024، تسابقت الكاميرات من كل نوع للولوج إلى أقبية السجون السورية التي لفّها مطولاً كثير من الغموض والسرّية، فمن فرع فلسطين إلى فرع المخابرات العسكرية (291)، يبرز سجن صيدنايا سيئ الصيت، لا بفظائعه التي شهدتها جدرانه فقط، بل أيضاً بتصميمه المعماري الفريد قُبحاً. وفي بلاد تزخر بالسجون الملأى عن آخرها بشبان وشابّات سيقوا إلى مقاصل الإعدام وزنزانات التعذيب بدلاً من مقاعد البرلمانات ودوائر المشاريع التنموية لبناء الأوطان التي ظنّوا أنها تتسع لهم ولأحلامهم، يلقي السؤال الثقيل التالي بنفسه على حواضر بلادنا: لماذا كلّ هذه السجون؟ ومن هذا السؤال بالذات، وصليب التعذيب المنصوب حتى الأمس القريب في صيدنايا، تتناول هذه المطالعة فضاء الجسد الذي تمارس الدولة سلطتها عليه من خلال توظيف العقاب والتعذيب تقنيات ممنهجة لإنشاء الفرد والمجتمع المنضبط، والكيفية التي تُطوع فيها العمارة لارتهان روح المعتقل - الإنسان وجسده، خدمةً لتحقيق أهداف التحكّم والمراقبة والانضباط الذي تسعى إليه الدولة الحداثية.

اعتمدت الشرطة العسكرية في سجن صيدنايا برنامجاً ممنهجاً من الإساءة والتعذيب والمعاملة القاسية بحقّ المعتقلين

السجن: فضاء تصنيع الجسد الانضباطي
يفتتح الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو كتابه "المراقبة والمعاقبة... ولادة السجن" (نقله إلى العربية علي مقلد، مركز الإنماء القومي، بيروت، 1990)، بلوحة شديدة الفظاعة عن التعذيب الجسدي، وهو يسترجع تفاصيل حكم الإعدام الصادر عام 1757 بحقّ روبرت داميينز، المتّهم الذي حاول اغتيال الملك الفرنسي لويس الخامس عشر، ويستطرد "فوق منصّة الإعدام التي ستنصب هناك، يجري قرصه (داميينز) بالقارصة في حلمتيه وذراعيه، وركبتيه وشحمات فخذيه... ثم تحرق يده بنار الكبريت، وفوق المواضع التي قرص فيها يوضع رصاص مذوب، وزيت محمى وقار صمغي حارق، وشمع وكبريت ممزوجان معاً، وبعدها يمزّق جسده ويقطع بواسطة أربعة أحصنة، ثم تتلف أوصاله وجسده بالنار، حتى تتحول إلى رماد يذرى بالهواء". ترسم هذه الصورة الشنيعة من الألم الذي تمارسه السلطة على الجسد لنا أبعاد "المواجهة الجسدية" بين الحاكم (أو من يفوّضه) والسجين، حيث يصبح الجسد الفضاء الذي يمارس الحاكم سلطته عليه بالانتقام من السجين، مستأثراً به، سالباً فاعليته المادية ومستعمراً روحه، فإن لم يفنَ بالموت نجح بتوجيهه بعد ذلك كيفما شاء، مستولياً على ذاتيّته وحرّيته، وهو في صنعه ذاك يهدف إلى تصنيع الجسد الانضباطي الخاضع الطيّع. لذلك يفترض فوكو أن التعذيب الذي تمارسه السلطة ليس عملاً عشوائياً وإنما منظّماً ومحسوباً بدقة متناهية، ما يؤهله ليكون تقنية وجزءاً من مراسم وطقوس منهجية تترك على الجسد آثارها الدائمة والمرئية من السجين والآخرين التي ستلتقطها عيونهم بلا شك، وتحتفظ بها ذاكرتهم جيداً، وبذلك تحقق الدولة الانضباط المنشود من خلال وسيط اسمُه "الجسد المعذّب"، والذي تعلن على ميدانه انتصارها باعتبارها صاحبة القوة القهرية العُليا.
شهد منتصف القرن الثامن عشر مطالباتٍ بإصلاح السياسة العقابية في سجون أوروبا والولايات المتحدة، التي أثمرت في أواخر القرن الثامن عشر حتى منتصف القرن التاسع عشر، سلسلة إصلاحات استهدفت فلسفة العقاب، إذ ترجمت بتقهقر ممارسة العنف في الفضاء العام (الساحة والجمهور) إلى فضاء السجن المُواري، واستبدال أساليب التعذيب بإجراءاتٍ عقابيةٍ تأديبية أخرى، مثل: السجن المؤبد والزنازين الانفرادية. وعلى الرغم من النَفس الإصلاحي، بقي الجسد حاضراً باعتباره مادة للعقوبات وخامة لها، ووسيطاً أساسياً تمارس السلطة عليه منهجياتها وأهدافها، مستحوذةً على ملكيته تماماً داخل جدران السجن؛ فهي المتحكّمة بكمية طعامه ونوعه وأوقات نومه ورياضته وأحيانا بأجله. هذا التحكّم من صاحبة السلطة القهرية المادية - الدولة بجسد السجين، يقودنا إلى السؤال الذي جاء عنواناً لكتاب "من يمتلك حقّ الجسد... قراءة في الحياة السجنية" (مركز أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت، 2022)، للمصري أحمد عبد الحليم، الذي خلص من خلال مقابلات شخصية مع سجناء وسجينات مصريين اكتظّت بهم السجون المصرية، لا سيّما بعد الانقلاب العسكري في مصر في يوليو/ تموز 2013، إلى الكيفية التي تعاد هندسة الإنسان بموجبها داخل السجون، إذ يُفكك جسده وروحه ويُعاد بناؤهما مرّة أخرى من خلال "محو الكينونة الإنسانية لدى النفس والذات، فتنزع عنها صفات لطالما تعارفت عليها مثل الكرامة والحرية والاعتراض (...) واستبدالها بصفات أخرى مثل المهانة والخضوع والطاعة". وبكلمات أخرى، تُهدم ذات السجين وتُبنى ذات أخرى بثقافة وسلوك جديدين، هذا الهدم والبناء يتم من خلال خطوات أولى، يستباح بها جسد السجين، سواء بضربه أو تعريته القسرية، فممارسة القوة القهرية عليه، بهدف تحقيق صدمة أولية لدى السجين ينضم بموجبها إلى جمهور المستسلمين من السجناء السابقين ليتشاركوا حالة نفسية جماعية من الخوف من سلطة السجن التي أصبحت تتحكم بهم بالمطلق، حيث الإهانة والضرب هما المتوقعان دائماً.

شهد سجن صيدنايا عمليات إعدام جماعية، فأُعدم شنقاً أكثر من 13 ألف سجين ما بين 2011 و2015

سجن الموت الأحمر
على بعد 30 كم من شمال دمشق تقع مدينة صيدنايا، وهي إحدى أعرق مدن الشرق القديم، التي تشتهر بطبيعتها الجميلة وآثارها المسيحية من الكنائس والأديرة، وقيل الكثير في معنى اسمها الآرامي، حتى اشتهر منها أنها كانت أرضاً لصيد الغزلان. شهد اسم المدينة نقطة تحول في ثمانينيات القرن الماضي حينما قرّرت الحكومة السورية السابقة إنشاء سجن صيدنايا الذي أُسس في البداية ليكون سجناً عسكرياً، تحوّل في ما بعد مقبرةً للمدنيين والمعتقلين السياسيين.
تُقدم منظمة العفو الدولية في تقريرها المعنون بـ"المسلخ البشري"، والصادر عام 2017، سجن صيدنايا بأنه "المكان الذي تقوم به الحكومة السورية (السابقة) بذبح شعبها بهدوء"، فهو ليس إلّا عالماً "صمّم لإذلال المعتقلين داخل السجن بهدف النيل من كرامتهم"، وذلك من خلال اعتماد أساليب تعذيب ممنهجة ومصمّمة للتسبب بأقصى درجات العذاب النفسي والبدني للمعتقلين، وهو ما دفع المنظمة المذكورة حينئذ إلى توصيف ممارسات السلطات السورية بحقّ المعتقلين داخل مراكز الاحتجاز، وتحديداً منذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، بأنها من قبيل أفعال الإبادة، إحدى الجرائم ضدّ الإنسانية التي تندرج ضمن اختصاص المحكمة الجنائية الدولية وفقاً لنظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، وتعني (الإبادة) "تعمّد فرض أحوال معيشية، من بينها الحرمان من الحصول على الطعام والدواء، بقصد إهلاك جزء من السكّان"، وذلك متى ارتُكبت هذه الممارسات على نطاق واسع أو ممنهج، الأمر الذي يُرتّب المسؤولية الجنائية للأفراد - المسؤولين المتورطين بارتكابها.
برامج تعذيب ممنهجة
اعتمدت الشرطة العسكرية التي كانت تدير سجن صيدنايا برنامجاً ممنهجاً من الإساءة والتعذيب والمعاملة القاسية بحقّ المعتقلين، والتي كان يقصد منها حسب ما ورد على لسان أحد الحراس السابقين في السجن: "زرع الرهبة والخوف في نفوس المعتقلين منذ البداية... كنّا نريد أن نجعلهم يدركون أنهم قد أصبحوا الآن سجناء، وأنهم أصبحوا تحت نِعالِنا". وقد تعدّدت أساليب التعذيب المعتمدة في السجن ما بين: الضرب المبرّح الذي مورس، لا للحصول على الاعترافات فقط، وإنما من أجل الإذلال سواء باستخدام العصي البلاستيكية والخشبية أو بأسلاك كهربائية نحاسية عُلقت على أطرافها عقافات صغيرة، حتى تعلق بجلد المعتقل، أو الضرب بما يعرف بالدبابة، وهي أداة مصنوعة من أسلاك إطارات السيارات مربوطة بمقبض خشبي، وكذلك الحرق بأعقاب السجائر، وإجبار المعتقلين على الوقوف في الماء لتلقي الصدمات الكهربائية، إضافة إلى استخدام العنف الجنسي الذي شمل إجبار المعتقلين على لمس بعضهم بعضاً في المناطق الحسّاسة، وأحياناً كثيرة إجبارهم على اغتصاب بعضهم بعضاً، وإلا تعرضوا للتعذيب الشديد في حال الرفض، فضلاً عن حرمانهم من الحصول على الماء والطعام الكافي، وتعريضهم أيضاً لدرجات حرارة شديدة البرودة في فصل الشتاء، وحرمانهم من مستلزمات النظافة الشخصية، وهو ما ينتج عنه انتشار الجرب والقمل في ما بينهم، والالتهابات التي أصيب بها بعضهم نتيجة التعرّض للضرب المبرّح وعدم تلّقي العناية الطبّية اللازمة لعلاجها، ما أدى إلى تفاقمها إلى حدّ الإصابة بالغرغرينا، التي استلزمت بتر العضو المصاب.

زنازين في سجن صيدنايا شمال دمشق (16/12/2024 فرانس برس)
زنازين في سجن صيدنايا شمال دمشق (16/12/2024 فرانس برس)

إعدامات بالجُملة
شهدت جدران السجن تنفيذ عمليات إعدام جماعية، فأُعدم شنقاً أكثر من 13 ألف سجين ما بين مارس/ آذار 2011 وديسمبر/ كانون الأول 2015، بمعدل 20 إلى 50 شخصاً أسبوعياً، حسب تقرير المنظمة المذكور، فالسجناء الذين حوكموا في محاكمات ميدانية عسكرية صورية لا تتجاوز مدتها الدقيقتَين، أُعدموا لاحقاً بعد الموافقة على قرار إعدامهم من كبار المسؤولين السوريين، منهم مفتي سورية ووزير الدفاع أو رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش السوري، بصفتهم مفوّضين بالتوقيع عن رئيس الجمهورية السورية آنذاك. وكانت عمليات الإعدام تُنفّذ في ليالي الاثنين والأربعاء في غرفة الإعدام الموجودة تحت غرفة المعتقلين، إذ سيق هؤلاء إلى غرفة الإعدام من دون أن يعلموا مسبقاً أنهم على وشك أن يُقتلوا، وقبل تنفيذ عملية الإعدام كان حرّاس السجن يمارسون عليهم ما سمّوه بالحفلة، وهي كناية عن الضرب المبرّح، الذي كان يستمرّ لساعات. فيما لم تمنع السقوف الإسمنتية وصول غرغرات المشنوقين التي تستمرّ عادةً عشر دقائق إلى مسامع المعتقلين الموجودين في زنزانات الطابق العلوي، الذين كان يصيبهم الذهول والغبطة في الوقت ذاته تجاه الذين أُعدموا، فالموت بالنسبة لهم "هدية وخاتمة العذاب في صيدنايا.
واستكمالاً لعملية الإعدام، كانت الجثث تنقل ما بين الساعة الرابعة فجراً والسادسة صباحاً إلى خارج السجن بواسطة شاحنة هونداي خضراء إلى مستشفى تشرين العسكري، حيث يتولى موظفو المستشفى تسجيل أسماء الضحايا. فيما لم تُعلَم عائلات الضحايا بوفاة ذويها، ولا يتم تسليمها الجثامين، كما لم تُستخرج للضحايا شهادات وفاة إلا نادراً، فبالعادة تبقى تفاصيل الجثث محفوظةً في سجلات السلطات السورية التي لا يطلع عليها أحد. ومن ثم تُدفن هذه الجثث في مقابر جماعية تابعة للجيش السوري، الموجودة في الغالب في قرية نجها الواقعة بين السويداء ودمشق، أو في بلدة قطنا الواقعة في غرب دمشق.
شكّل برنامج التعذيب والقتل المذكور تقنيات وُظّفت خلال المواجهة الجسدية ما بين الدولة والسجين على جسد السجين، بهدف الانتقام منه وتحقيق الانضباط الذاتي في حال أُفرج عنه أو التخلّص منه باعتباره "عشبةً ضارّةً لا نفع منها"، ضمن إطار واسع من الهندسة الاجتماعية للفرد فالمجتمع، لخلق مجتمع منضبط ذاتياً خاضع لسلطة الدولة الحداثية ذات القبضة الشاملة، وللوصول إلى الفاعلية القصوى من تقنية العذاب، فقد عملت الدولة الحداثية أيضاً على تطويع عنصر الفضاء المعماري أو التصميم الهندسي للسجن، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال تصميم سجن صيدنايا.

صور سوريي لقوا حتفهم في سجن صيدنايا وغيره من سجون الأسد خلال مراسم تأبين لهم في جرمانا بريف دمشق (21/12/2024 Getty)
صور سوريين قضوا في سجن صيدنايا وغيره من سجون الأسد في مراسم تأبين بجرمانا في ريف دمشق (21/12/2024 Getty)

رهائن عمارة السجن: الروح والجسد
تقوم النظرية العامة للعمارة على ما يُعرف بثلاثية فتروفيوس المتمثلة بتحقيق عناصر الجمال والوظيفة والمتانة في التصميم الهندسي لأيّ بناء، بالمقابل تستند نظرية عمارة السجون على تحقيق عنصري الوظيفة والأمن فحسب. انطلاقاً من هذه النظرية استندت تصاميم السجون الحداثية على أحد الأنظمة المعمارية التالية: الأول نظام بانوبتيكون الذي يهدف إلى تعزيز المراقبة والانضباط؛ والثاني نظام بنسلفانيا المرتكز على تحقيق العزلة والصمت؛ بينما يزاوج النظام الثالث المعروف بأوبورن بين العمل والصمت. وليس من نافل القول التأكيد بأن التصاميم المعمارية للسجون ذات أثر كبير وعميق على الصحة العقلية والجسدية والاجتماعية على السجناء والعاملين فيها.
يتألف نظام بانوبتيكون الذي ابتدعه جيريمي بينثام من هيكل دائري مع برج مراقبة مركزي محاط بزنازين، يهدف هذا التصميم إلى خلق بيئة يمكن فيها مراقبة كل سجين في أي وقت. ومن خلال تحسين وظيفة المراقبة في السجون، سعى هذا التصميم إلى تحقيق أقصى قدر من السيطرة مع وجود حد أدنى من الموظفين بواسطة التخطيط الاسترايتيجي للممرّات بهدف التنظيم الفعّال للمداخل والمخارج ممّا سهّل مراقبة جميع تحركات وتصرفات السجناء، وتمثل الهدف النهائي لهذا التصميم في ضبط سلوك السجناء ذاتياً، من خلال إدراكهم بخضوعهم المستمرّ للمراقبة، وبعبارت أخرى اعتبر هذا التصميم وسيلة فعّالة لتعزيز الانضباط الداخلي لدى الأفراد حسب فوكو.
أما نظام بنسلفانيا فيقوم على أساس عزل السجناء بالكامل في زنازين فردية، على أن تكون كلّ زنزانة مفتوحة على فناء خاصّ، مع منع السجناء من التواصل مع بعضهم بعضاً. وقد اعتبر العزل وفقاً لهذا النظام وسيلةً لحثّ السجناء على التفكير في أخطائهم وتقييمها، فالزنازين الفردية ذات الضوء الطبيعي والمطلّة على فناءات تهدف إلى توفير مساحة للسجناء لإعادة التأهيل الصامت لذواتهم. وعلى الرغم من هذا، فقد كان للعزل الكامل آثار نفسية مدمرة على السجناء ممّا أدى إلى اصابتهم بأمراض نفسية مزمنة مثل الاكتئاب والهذيان والاغتراب الاجتماعي.
أخيراً، يسمح نظام أوبورن للسجناء بالعمل معًا أثناء النهار أما خلال الليل فيُحبسون في زنازين فردية. يستخدم هذا النظام عادةً تخطيطاً خطياً أو "عمود هاتف". وما يميز هذا النظام توفيره نشاطات للسجناء مثل عقد ورش العمل مع منحهم مساحات عمل داخل مباني السجن لتسهيل تنمية مهاراتهم وتمكينهم من المساهمة في الإنتاج من خلال العمل، وبذلك يسعى هذا النظام إلى إعادة تأهيل السجناء مع تحقيق عوائد اقتصادية أيضاً، ونظراً لتكلفته المنخفضة وقدرته على الحفاظ على النظام الاجتماعي بين السجناء فقد اعتُمِد على نطاق واسع في تصاميم السجون.

صمّمت الزنازين مغلقةً تماماً وخاليةً من الضوء الطبيعي، مع احتجاز المعتقلين عمداً في الظلام

آليات عقابية في أنظمة غير ديمقراطية
منذ القرن العشرين، أكدت تصاميم السجون الحداثية على احترام حقوق السجناء، وأصبح إعطاء الأولوية لحقوق الإنسان الأساسية ودمجها في تصميم السجون أمران محوريان. فقد دعت "القواعد الدنيا النموذجية لمعاملة السجناء" الصادرة عن الأمم المتحدة عام 1955 (قواعد نيلسون مانديلا) إلى إنشاء بيئات مادية واجتماعية تضمن ظروف معيشية كريمة للسجناء وذلك امتداداً للنهج الإصلاحي الذي شهدته السجون منذ القرن الثامن عشر فما بعد. أمّا في الأنظمة غير الديمقراطية، فلا زالت تُستخدم السجون أدواتٍ للقمع السياسي، حيث ترتكّز في أنظمة عقابية بدائية محورها العقوبة البدنية مثل سجن صيدنايا.
بدأ العمل على تشييد سجن صيدنايا عام 1981، واكتمل بناؤه عام 1986، ويقع على تلّة صخرية على بُعد 5 كيلومترات غرب بلدة صيدنايا. يتبنى التصميم الهندسي للسجن نظام بنسلفانيا حيث فرض العزلة الكاملة والمكثّفة للمعتقلين إمّا بشكل فردي أو في مجموعات، وتؤدّي الخصائص والظروف المكانية للسجن إلى تفاقم آثار العزلة والعنف الجسدي مع تضخيم الإساءة النفسية للمعتقلين لتصل مستويات غير معقولة. 
لا توفّر اللقطات الجوّية والصور المرئية لسجن صيدنايا تفاصيل كافية لتحليل شامل لتصميمه الهندسي. ومع ذلك، فإن محاولة إعادة تركيب وتصميم السجن هندسياً من قبل منظمة Forensic-Architecture عام 2016، وفقاً لشهادات معتقلين سابقين كشفت مخطّطاً هندسياً بسيطاً عززته أخيراً الصور المرئية بالفعل بعد سقوط النظام السوري. يتكون هيكل السجن من ثلاث كتل مستطيلة متّصلة بنواة مركزية، في هذه الخطّة الشعاعية يمكن تمييز ممرّ خطّي وصفوف من زنازين المعتقلين بوضوح، مما أتاح لإدارة السجن مراقبتهم والتحكّم فيهم بشكل مباشر ومستمرّ.
يمتاز سجن صيدنايا بعزلته المادية والبصرية عن محيطه، فيما يهيمن الصمت الكامل عليه، ولأن رؤية المعتقلين مقيّدة ومحدودة، يصبح السمع أمراً حيوياً للبقاء لا سيّما أن المعتقلين قد أُجبروا ودُرّبوا على الصمت التام. ومع فرض القيود الحسية، ازدادات قدرة حاستَي السمع والشمّ للمعتقلين، وبالتالي ازدادت حدّة الأصوات المسموعة مثل الرياح والمطر والماء وخطوات الأقدام والضربات والأصداء ورائحة الدم. فعلى سبيل المثال، كان المعتقلون يسمعون أصوات العنف الجسدي بهدف تحديد أساليب التعذيب المستخدمة، وما إذا كانت الضربات محصورةً في زنزانةً واحدةً أو تنتقل بالتتابع إلى زنزانات أخرى، فيما يشير صوت سيارة تقترب من السجن إلى وصول سجناء جدد.
وُضع المعتقلين، إمّا بشكل فردي أو في مجموعات، داخل زنازين ضمّت دورات مياه، لم تكن المساحة المخصّصة لكلّ معتقل كافية، وبالطبع لم تكن هناك أيّ خصوصية لهم. وبالنسبة إلى تصميم الزنازين فقد كانت مغلقةً تماماً وخاليةً من الضوء الطبيعي، مع احتجاز المعتقلين عمداً في الظلام. وقد اشتلمت أبواب الزنازين الفولاذية على فتحات صغيرة بمستوى الأرض، ممّا أتاح للمعتقلين رؤية أقدام المارّة فقط، تحديداً الحذاء العسكري للسجّانين وسيلةً أخرى لإحكام الهيمنة النفسية على المعتقلين. أمّا نوافذ الممرّات فقد بُنيت على ارتفاع كافٍ لحجب العالم الخارجي مع وجود زجاج متّسخ يعيق رؤية محيط السجن.
بطبيعة الحال تغيب المساحات الطبيعية والترفيهية لتلبية الاحتياجات الاجتماعية للمعتقلين، ولا توجد مناطق للحركة والتريّض داخل المبنى، كما لم تتضمّن تصاميم ومرافق مخصّصة للمعتقلين من ذوي الإعاقة أو المسنّين. وحتى الاحتياجات الإنسانية الأساسية للأفراد الأصحّاء لم تلبَ. فضلاً عن افتقار المبنى للعزل الحراري الأمر الذي عرض المعتقلين لأجواء شديدة البرودة.
يبدو المبنى الذي بُني بتقنيات وأساليب تعود إلى ثمانينيات القرن العشرين سيء الصيانة، وبصرف النظر عن أنظمة الطاقة الشمسية وأدوات المراقبة الرقمية المستخدمة، لم يُلاحَظ أيّ تحديث كبير في ظروفه الإنشائية. وبشكل عام، لم تعطَ الأولوية لأيّ مظاهر جمالية لدى تصميمه، إذ يحتفظ الهيكل الخرساني المسلّح بالمواد النموذجية لفترة بنائه، بما في ذلك الخرسانة والمعادن وبلاط الفسيفساء للأرضيات وتشطيبات الجدران ذات الألوان الباردة، وقد ساهمت هذه المواد والعناصر مُجتمعة بترك أثر نفسي سلبي ومُدمر على السجناء مسبّبة هلوسات وأمراض نفسية مزمنة لدى الكثيرين منهم.
لم تترك الخصائص المعمارية وظروف سجن صيدنايا، المتمثّلة بالتعذيب واستخدام أدوات المراقبة الدائمة، أيّ خيار للمعتقلين سوى العيش في حالة من الخوف والقلق والتوتّر الدائم. فالنهج العقابي للنظام المتجذّر في التخويف والإذلال، لم يهدف إلى إعادة تشكيل المعتقلين فقط، ولكن أيضاً المجتمع الأوسع. فعلى الرغم من تغيّر الفلسفة التي ينظر من خلالها إلى السجون باعتبارها مرافق لإعادة التأهيل في الدول الديمقراطية، فإن العكس تماماً يُلاحظ في ظلّ الأنظمة الاستبدادية، إذ تصبح السجون مثل صيدنايا مساحات لانتهاكات حقوق الإنسان والقمع المنهجي.

اتاحة سجن صيدنايا أمام الزوار، ضمانة لعدم نسيان انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة، وتوظيفه موقعاً للبحث في مجال حقوق الإنسان

التراث المظلم
لم يعد سجن صيدنايا اليوم، بعد سقوط النظام السوري (الأسدي)،  مُجرَّد مبنىً مادّياً، بل رمزاً يمثّل الوجه المظلم للأنظمة الاستبدادية، ففي حال تحويله مساحةً تذكاريةً متاحةً أمام الزوار، وفقاً لتصريح الإدارة السورية الجديدة، فإن ذلك من شأنه ضمان عدم نسيان انتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في الماضي، فضلاً عن إمكانية توظيفه موقعاً للتعليم والبحث في مجال حقوق الإنسان مسعىً لمنع تكرار أخطاء وأحداث الماضي، وهو ما يندرج تحت مظلّة التراث المظلم للإنسانية، بإعادة تفسير وتوظيف المساحات المرتبطة بالأحداث المؤلمة والصادمة في التاريخ البشري، وذلك على غرار تحويل مركز التعذيب السابق "تول سلينغ" متحفاً يؤرّخ أحداث الإبادة الجماعية في كمبوديا.
كانون يُزهِر أملاً
تسلّل الدفء فجأة إلى الشام وهي تمزّق عباءة خمسينيةً باردةً جافّةً عن أرضها والسوريين، وانتشر كما ينتشر الصباح في قلوب هَرِمت من الإنتكاسات المتلاحقة في طول الأرض العربية، يغذّيها بنهم مستمرّ الدم النازف في غزّة، وعموم فلسطين.
سقط طاغية الشام إذاً! وفُتحت أبواب السجون عن آخرها، وعانق الآلاف شمس الحرّية، من دون أيّ توظيف للمجاز. وما بين مُرحِّب ومُشكِّك بجدوى الحاصل في دمشق اليوم، ومآلاته الضبابية، حمل "كانون"، وقبل أن تصلنا مربعينيته هذا العام، هدايا الحياة على غير موعد، فحرّية المعتقلين زهرةٌ آن لشعوب منطقتنا أن تقتطفها رغماً عن أشواك سجّانيها عرباً كانوا أم عجماً.   

مي بركات وبلال بيلغيلي
مي بركات وبلال بيلغيلي
مي بركات باحثة ومحامية وقانونية فلسطينية. وبلال بيلغيلي دكتور تركي من أصول عربية في الهندسة المعمارية وخبير في التراث الثقافي.