إعادة صياغة الرواية..."الأرض المُقدّسة" مسرحا
يعدّ صندوق استكشاف فلسطين (PEF) الذي أسّسته، تحت الرعايةِ الملكية للملكة فيكتوريا عام 1865، مجموعة من الأكاديميين ورجال الدين والصهيونيين الأوائل، أُول المساعي الغربية المؤسّساتية لتمويل البعثات والمشاريع البحثية في تاريخ فلسطين (الأرض المقدّسة)، وعاداتها وسلوكياتها وأركيولوجياها وأنطولوجياها. ولضمانِ مأسّسةِ المعرفةِ التي توصّلت إليها البعثات، أصدرَ الصندوق "المجلة الفصلية لاستكشاف فلسطين" التي لا تزال تصدر، لتكون أوّل مجلة علمية تنشرُ دراساتٍ وكتاباتٍ متخصّصة في المجالاتِ المذكورة، منتجةً بذلك معرفة تراكمية عن الأرض المقدّسة.
يستعرضُ الصندوقُ الذي ما زال فاعلاً على موقعه الإلكتروني سير حيوات الرجال والنساء الذين ألهموا وأغنوا هذه التجربة المعرفية في اكتشافِ الأرض المقدّسة، والذين قادهم "شِغاف القلب" نحو القدس ابتداءً، لقراءةِ الأرض بحمولتها الأركيولوجية من خلال الكتاب المقدّس، بعهديه القديم والجديد، يجمعهم في ذلك "هدفهم المشترك بدراسة الأرض ومسحها لإثبات حقيقة الرواية الكتابية" كمنطلقٍ تاريخيٍ نظريٍ مستمرّ لبرهنة جذور الوجود اليهودي المسيحي في الأرض، وهو جوهر ما يُعرف بعلم الآثار الكتابي (Biblical Archaeology) الذي يُمكن تلخيص أهم سماته، بسعيه الدؤوب إلى لَي عنق حقائق الجغرافيا التاريخية للأرض، بهدف مطابقتها لنصّ الكتاب المقدّس، وهي مسيرة بدأت قبل انطلاق أعمال المشروع الصهيوني بشكلٍ رسمي في مؤتمر بازل عام 1897، واستمرّت خلال الانتداب البريطاني وقيام دولة "إسرائيل" عام 1948 واستكمال عملية احتلال فلسطين عام 1967 بهدف إحكام أوتاد وجود الاستيطانِ الصهيوني الغريب على أرضِ فلسطين، وذلك في إطارِ جهودٍ مستمرّة في توظيفِ الأدوات المختلفة بهدف إعادة صياغة الرواية من خلال مسارح عديدة، وهي (في هذه المطالعة) الأرض، وبكلماتٍ أخرى، ستُشكل هذه المطالعة إضاءة تاريخية ضرورية ومقدّمة لمساراتٍ موازيةٍ لا تزال تُطبّق من أجل السيطرة على الرواية وإعادة تشكيلها من خلال معولي المحو والاستبدال.
علم الآثار الكتابي: إسكات لتاريخ فلسطين
شهد القرن التاسع عشر زخماً في ما يتعلّق ببعثات الاستشكاف الأثرية الغربية (البريطانية والأميركية والفرنسية والروسية) إلى منطقةِ الشرق الأدنى، تحديداً أرض فلسطين والأردن، قادها عديدون من علماء الآثار واللاهوت، وأحياناً من العسكريين الأوروبيين، ومن أشهر هؤلاء عالم الآثار الأميركي إداورد روبنسون الذي نشر، بعد رحلته الإستكشافية، كتابه "البحث عن الآثار المقدّسة في فلسطين والأقاليم المجاورة"، والذي أصبح مرجعاً مهمّاً في هذا المضمار. وقد راكمتْ هذه البعثات الاستكشافية إنتاجها المعرفي الذي تنوّع ما بين الأبحاث والمُسوح الطوبوغرافية التفصيلية والخرائط لصياغة تصوّرها "الذاتي- الكتابي" عن الأرض بعيداً عن الموضوعية العلمية.
يُعرّف علم الآثار الكتابي بأنّه العلم الذي يُعنى بـ"دراسة البقايا الأثرية للمناطق والثقافات والشعوب التي تزامن وجودها في الحقب التي رواها الكتاب المقدّس"، فيما شكلت النصوص الكتابية المرجعية النظرية لهذا العلم الذي اعتُبر كموطئ قدم للقوى الاستعمارية المختلفة في المنطقة، والتي تخفّت تحت عباءته. في حين تعرّض هذا "العلم"، أخيراً، لكثير من التشكيك في مدى علميةِ نتائجه ودقّة مرجعيته النظريّة التي تُنزّل النصّ الديني منزلَ الحقيقةِ العلمية، وهو ما استدعى إعادة تقييم أدبياته العلمية، وفي مقدّمتها الكتاب سابق الذكر لروبنسون الذي اتُهم بتزويرِ عديدٍ من حقائق الجغرافيا التاريخية لفلسطين وإهمالها وتطويعها، لتتماشى مع نصوصِ الرواية الكتابية.
إسكات تاريخ فلسطين القديم واستبعاده فعل ممنهج مقابل إعلاء صوت الجزئية التاريخية العابرة، أي تاريخ إسرائيل القديم
يُشكّل حقلُ الدراسات التوراتية البناء المعرفي لعلم الآثار الكتابي، والذي يخضع، بطبيعة الحال، ويتشكّل ضمن مدار خطابها ونظرياتها التي تُصنّف تاريخ فلسطين القديم باعتباره فقط ضمن "بند التطوّرات السياسية والاجتماعية والدينية لمملكة إسرائيل القديمة الموجودة حوالي 1200 ق.م"، كما يذكر كيث وايتلام في كتابه "اختلاق إسرائيل القديمة: إسكات لتاريخ فلسطين" (1999). وبذلك يُصبح إسكات تاريخ فلسطين القديم واستبعاده ÃãÑðÇ ممنهجاً مقابل إعلاء صوت الجزئية التاريخية العابرة- تاريخ إسرائيل القديم، بل ومنحها فرصة الصدارة والهيمنة.
ولذلك ليس من قُبيل الحماسة اعتبار علم الآثار الكتابي، ومرتكزاته المعرفية ومنتجاته، من قبيل أدوات إبادة الذاكرة الجمعية (Memorycide)، والتي تعني "الفعل العمد الذي يتقصّد مرتكبوه محو جميع (أو بعض) ما يذّكر جماعة إنسانية، شعباً أو أمّة¡ بماضيها السياسي والاجتماعي والفكري والعقائدي، ويستهدف، في الوقت نفسه، تقويض قوة تخيّلها ذلك الماضي"، كما يقدّمها المؤرّخ والباحث الفلسطيني عصام سخنيني في كتابه "الجريمة المقدّسة: الإبادة الجماعية من أيديولوجيا الكتاب العبري إلى المشروع الصهيوني" (2013)، ذلك أنّ هذا النوع من الإبادة يستهدف محاور عديدة منها: إبادة تاريخ الشعب واستبداله بتاريخ بديل، وطمس الجغرافيا التاريخية للشعب واختلاق جغرافيا بديلة، وتغيير مُسمّيات الأمكنة بهدف قطع العلاقات الحاضرة والمستقبلية معها. وبهذا يتحقّق وجهٌ من وجوهِ الإحلال الذي يستهدف كلّ مكوّنات أُسس وجود الجماعة.
لماذا الرواية؟
يوفّر موقع "مجتمع الآثار الكتابي"، فرصةً للمتطوّعين الراغبين بالمشاركة في عمليات ونشاطات تنقيب أركيولوجية في مواقع متعدّدة في أراضي الأردن و"إسرائيل" أو ما يُصطلح على تسميتها أراضي الشرق الأدنى، حيث تعتمد هذه النشاطات على الكتاب المقدّس إطاراً نظرياً لاكتشافِ الأرض وكتابة تاريخها، وتمنح البعثة للمتطوّعين فرصة الاكتشاف والتعلّم والإثارة، فضلاً عن توفير منحةٍ مالية تتجاوز الألف دولار. وتعتبر فرصة التطوّع هذه إحدى وسائل نشر (وتمرير) الرواية الصهيونية عن "الأرض المقدّسة"- فلسطين، التي عكفت، منذ البدايات، على إعادةِ صياغة الجغرافيا التاريخيةباعتبارها ركناً من أركان المشروع الصهيوني في استيطان فلسطين، والذي قام، منذ بداياته، على ركائز استيطان الأرض و"إعادة" اليهود إليها، بالتوازي مع الترحيل القسري للفلسطينيين، إذ يستكمل هذا الاستيطان إطاره وفاعليّته بإعادة "تشكيل الأرض فلسطين" من خلال محو الآخر العربي الفلسطيني، والتعامل مع وجوده في فلسطين على أساس الوجود الطارئ في مسار التاريخ، مُنكراً أيّة كيانية قومية للفلسطيني، وبالتالي حقّه في تقرير المصير على أرضه.
تكمنُ أهمية الرواية وإعادة صياغتها باعتبارها من أشكال السيطرة والسلطة على الذاكرة الجمعية والهُويّة الوطنية والتراث الثقافي لشعبٍ أو أمّةٍ ما
تكمنُ أهمية الرواية وإعادة صياغتها باعتبارها من أشكال السيطرة والسلطة على الذاكرة الجمعية والهُويّة الوطنية والتراث الثقافي لشعبٍ أو أمّةٍ ما، وهو ما يجعل الرواية مسرحاً حيوياً للصراع باعتبارها أحد أوجه "السلطة فيمن سيحدّد شكل المستقبل" على الأرض التي تستقي ماهيّتها من التاريخ والآثار والطوبوغرافيا وأيضاً من الذاكرة الجماعية.
الإنكليزي يُخطّط ويؤسّس
استهل الإنكليز عملهم الكشفي المبكّر في فلسطين، من خلال إنجاز أوّل عملية مسح كامل لمدينة القدس، وفي حين يجري تسويق هذا المسح باعتباره خطوة تمهيدية وسابقة لتحسين ظروف المدينة الصحّية وإمدادات المياه، إلا أنّه، في حقيقة الأمر، لم يكن إلا جزءاً من الدراسة والمعرفة الاستعمارية بالشعوب غير الغربية - البدائية التي أُنجزت قبل وصول الاستعمار إليها كما يخبرنا جيرار لكلرك في كتابه "الأنثروبولوجيا والاستعمار" (1990) عن حقيقة الدراسات "العلمية" للشعوب البدائية في مرحلة ما قبل الإستعمار. ومع تأسيس صندوق استكشاف فلسطين، نشطت بعثات التنقيب الأثري ضمن سياق الرواية الكتابية واعتماداً عليها، أهمّها التي أُنجزت في القدس (1867- 1870) وعملية مسح غرب فلسطين (1871- 1878) وتل الحسي (1890- 1893). وقد اكتمل إنجاز الصندوق الذي كان على صلةٍ وثيقة بالجيش البريطاني، ومصدراً للمعلومات الإستخباراتية عن المنطقة، بالانتهاء من مسحٍ طوبوغرافي شامل لفلسطين بشقّيها الغربي والشرقي (الأردن) وأجزاء من لبنان، من خلال إنجاز عدّة خرائط طوبوغرافية لفلسطين، نشرها صندوق اكتشاف فلسطين عام 1890، حيث أُعيد في إحداها تسمية المناطق العربية بأسماء الأسباط الإثني عشر العبرية لبني إسرائيل.
بعد سنوات، وتحديداً في عام 1922، أعلن الانتداب البريطاني على فلسطين بموجب صك الإنتداب، الذي آل على سلطات الانتداب اتخاذَ التدابير اللازمة لإنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين وتسهيل هجرة اليهود إليها تنفيذاً لوعد بلفور الصادر عام 1917. نصّ الصكّ المذكور في المادة 21 منه على ضرورةِ إصدار قانون لحماية الآثار القديمة، واضعاً محدّدات بخصوص منح تراخيص التنقيب وشروط أهلية الأشخاص المنقبين، وقد تزامن ذلك مع إنشاء المدرسة الأثرية الإنكليزية في القدس وتأسيس دائرة الآثار في العشرينيات، ومن ثم إصدار قانون الآثار الذي دخل حيّز النفاذ عام 1929.
لم تستحوذْ سلطات الانتداب على السلطة السياسية والتشريعية لتسهيل تنفيذ الأهداف المُناطة بها فحسب، بل استكملت مطاردة التاريخ لإعادة تشكيله بالكيفية التي تخدم وتبرّر إقامة الوطن القومي لليهود، ومن أساليب هذه المطاردة الإنتقائية غير العلمية للآثار المادية التي تخدم الهدف المذكور وإهمال أو تدمير أخرى، وكذلك تدريب (وتجهيز) متخصّصين من اليهود في علمِ الآثار من دون أي تجهيز يُذكر للفلسطينيين.
الاحتلال الإسرائيلي يستكمل النهج
يُعتبر المسح الأركيولوجي التفصيلي لكلّ المناطق في فلسطين من أبرز إنجازات السلطات الانتدابية في مجال الآثار، حيث خلفت وراءها تركة أرشيف مسحي كبير يتم أتمتته حالياً ضمن مشروع سلطات الآثار الإسرائيلية المُدشّن عام 2011 ضمن ما يُعرف بمشروع أتمتة أرشيف الآثار الانتدابية من الأعوام 1919/1984). وتتيح هذه الأرشيفات للباحث اختيار القرى (حتى تلك المحتلّة والمدمّرة إبّان فترة النكبة) للاطلاع على الحالة الأركيولوجية لها، فمثلاً يعكس أرشيف قرية قالونيا (مستعمرة موتسا اليوم) حالة تفصيلية للقرية من حيث موقعها، وأبرز الآثار التي تتضمّنها، ووصفًا تاريخيًا كاملا لطريقها (طريق يافا والقدس)، ورسومات وصورا عن الأواني الفخارية والفسيفساء الموجودة فيها. ويعكس هذا الاهتمام بالأرشيف المذكور حالة من التتابع والتوارث في العمل والمهمة وتطابق الأهداف ما بين قوى الاستعمار المتعاقبة من حيث الرؤية الاستعمارية للأرض، كون الإحلال الجاري في كلّ فلسطين غير قاصرٍ فقط على توطين جماعة عرقية مكان أخرى، وإنّما أيضاً رواية تاريخية مستندة إلى نصٍّ كتابي، مكان رواية حقائق وطبقات الأرض، بغية استكمال أجزاء مشروع الاستيطان الإسرائيلي.
استُخدمت الأدوات التشريعية والأوامر العسكرية الإسرائيلية لكفّ أيدي الفلسطينيين عن أرضهم بغرض مصادرتها تحت ذرائع وجود مواقع أثرية فيها
أولت الدولة الوريثة والجديدة "إسرائيل" منذ العام 1948 اهتماماً محموماً بمسألة الآثار، حتى اعتبرتها "أداة قومية" بالغة الأهمية في "خلق" الهوية الجمعية للشعب اليهودي، ووتد ارتكاز لربطه بالأرض - فلسطين، فعلم الآثار الكتابي "يلعب دوراً مهمّاً في تأكيد الصلات بين سكّان دخلاء وتاريخهم القديم [إن وُجد]. وبعمله هذا، يؤكد حقّ هؤلاء السكان الدخلاء في تلك الأرض". كما يكتب واتيلام. ولذلك لم يكن مستغرباً أن يشهد هذا العلم مرحلة ازدهار في حقبة نشوء دولة الاحتلال وما تلاها، إذ اعتبرت هذه الحقبة استمراراً للنهج الانتدابي، من خلال ربط المواقع التاريخية بالرواية الكتابية لإبراز الطابع اليهودي لها ولو عنوة، وهو ما نتج عنه إسكات لتاريخ فلسطين وإقصاؤه، فعلى سبيل المثال، تُوضّح جولة سريعة في قلعة القدس التاريخية (أعاد الاحتلال الإسرائيلي تسميتها قلعة داود) الموجودة في باب الخليل في القدس المحتلة هذا النهج التأريخي للمكان والزمان الذي تتجلّى أهم سماته بتسليطِ الضوء على الحقبة اليهودية للقلعة (على فرض وجودها) وتهميش ما سواها. ولا يقتصر هذا النهج على إسقاط الرواية الكتابية على المكان، بل ويشمل إطلاق أسماء توراتية على البلدات والمناطق العربية، وهو مشروع بدأته عام 1924 لجنة الأسماء في الصندوق القومي اليهودي، بهدف إحياء التسميات "العبرية التاريخية"، مثل تسمية القدس بيروشلايم وبئر السبع ببير شيفع وعكّا بعكو وهلم جرا. رافقتْ هذا النهج الإزالة المادية لآثار الحقب التاريخية، تحديداً تلك الإسلامية العربية كمحاولةٍ للقفز والتجاهل والمحو المدروس لأيّة هُويّة عربية موجودة في المكان، على غرار ما قامت به سلطات الاحتلال الإسرائيلي من هدم مقبرة مأمن الله والحي المغاربي في القدس المحتلة.
في مرحلةٍ لاحقة، خصوصاً لدى بدء الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وقطاع غزّة عام 1967، استُخدمت الأدوات التشريعية كقانون الآثار الأردنية والأوامر العسكرية الإسرائيلية لكفّ أيدي الفلسطينيين عن أرضهم بغرض مصادرتها تحت ذرائع وجود مواقع أثرية فيها، شكّلت هذه الأداة مُقدّمة لمصادرة أراض استخدمت فيما بعد لغايات التوسّع الاستيطاني في الضفة الغربية، ومن هذه الأمثلة مستوطنة بيت إيل التي أُقيمت على أراضي مدينة البيرة ورام الله المُصادرة.
الستارة لم تُسدل بعد
في المرافعة الشفهية لفريق إسرائيل القانوني في الدعوى القضائية المرفوعة من جنوب أفريقيا ضدّ إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية بشأن انتهاكها التزاماتها المترتّبة بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها في قطاع غزّة، يستند كبير المحامين، مالكولم شو، لتبيان حقّ إسرائيل في الوجود، إلى مجموعة من الوثائق الكلاسيكية: وعد بلفور وصكّ الانتداب، فيما يستكمل، وبشكل مثير للاستغراب، تأسيس هذا الحقّ على واقعة عبور قبائل الأسباط الاثني عشر من بني إسرائيل إلى "الأرض التي أعطاها الربّ لهم" (أرض إسرائيل كما يسمّيها شو) المذكورة في سفر يشوع في التوراة، المفارقة أنّ هذا الاحتجاج الذي يستند إلى مصدرٍ ديني قد مُورِس، وبكلِّ أريحية، أمام محكمة دولية علمانية تُصدر أحكامها وفقاً لقوانين علمانية.
مقابل الرواية التي تسعى وبجد إلى اختلاقِ حقائق مادّية تاريخية عن تاريخ فلسطين القديم، ثمّة اهتمام فلسطيني مُنصبّ فقط على التاريخ الحديث لفلسطين
تستندُ هذه الحجّية التي تُشرعن قيام دولة "إسرائيل" إلى خطابٍ تتبنّاه وتنشره الدراسات التوراتية التي تؤكّد ارتكاز حقّ إقامة دولة إسرائيل الجديدة على "سابقة تاريخية- دولة اسرائيل القديمة" فيما تبدو نصوص اتفاقية مونتفيديو لعام 1933 التي تنظّم المؤهلات الأساسية الواجب تحقّقها لقيام الدول مُهملة وخارج الخطاب الذي يُفترض أنّه قانوني، على الأقل في هذه المناسبة. إلا أنّ الناظر إلى المشهد الاستعماري العام في فلسطين سيُدرك سبب هذا التوكيد المحموم، في كلّ فرصة، للرواية الكتابية لـ"الأرض المقدّسة"، ومدى الحاجة إلى تأصيل تاريخي بالغ القدم لتبرير الوجود اليهودي في فلسطين.
بالتزامن، يُقابل هذه الرواية التي تسعى وبجدٍّ إلى اختلاقِ حقائق مادّية تاريخية عن تاريخ فلسطين القديم، اهتمام فلسطيني مُنصبّ فقط على التاريخ الحديث لفلسطين، أي القرنين التاسع عشر والعشرين، من حيث التصدّي لمزاعم الحركة الصهيونية وأسس قيام إسرائيل الحديثة، وهو ما أبقى خيوط مسرح الرواية التي تسرد تاريخ فلسطين القديم حكراً على خطاب الدراسات التوراتية "المُعزّز" بمكتشفات "علم الآثار الكتابي،" فيما يقع على الفلسطيني عبء استعادة التاريخيْن: القديم والحديث لكسر دائرة الاحتكار هذه.
وفي وقتٍ يستمرُ العمل بموجب هذا المعول، هناك مسارح أخرى يجري استهدافها لاستكمالِ مهمةِ المحو الذي تتجاوز آثار خطورته الأجيال الحالية إلى الأجيال القادمة التي قد تكبُر وتنشأ في حيّزٍ أُعيدت صياغة معالمه المادّية والمعنوية بشكلٍ مُغاير للحيّز الموجود في الذاكرة الجمعية للأجيال السابقة، وأثر ذلك، بطبيعة الحال، على مكوّنات الهُويّة الوطنية وأواصر تشكيل الجماعة التي تُسمّى الشعب الفلسطيني، وهو ما جرى، بشكلٍ سافر، خلال النكبة وأعقابها ويجري حالياً بشكل شرس في قطاع غزّة.