صراع الضحايا
تذخر المنطقة العربية بالصراعات الداخلية والاعتداءات الخارجية. وتقبع أجزاءٌ منها تحت نير احتلالات مباشرة؛ وحشيّة الطابع أو غير مباشرة؛ خبيثة المطامع. ويستمتع بعضُها بفتح جبهاتٍ بينيّة مع جاراتها لتعزيز حكم مُستبدّيها الذين يبحثون عن عدوّ تقليدي، ليس من الضروري أن يكون من خارج المنطقة، بل من الأجدى، والأكثر عبثية ودموية، أن يكون بلداً عربياً جاراً، وصاحب الثقافة والتاريخ نفسيهما، فتصبح الفرصة مُهيّأةً لحروبٍ حدودية تسيطر عليها إرادة الحكّام الذين يستبدّون بشعوبِهم. ومن ثمّ، هم يكرهون هذه الشعوب إلا إن أصغت وأطاعت الحاكم بأمره. وحتى في حالتي الطاعة وعدم العصيان، فالحب الذي يواجه الكراهية غير محمودٍ أصلاً، فمن الأفضل ألّا يشعر الحاكم بأيّ عاطفة، وهو ما يجهله حتماً إلا تجاه نمور حدائقه، بل من الأفضل أن يقبل طاعة المحكوم بحذر. فلا أمان لمحكوم بالقوة والقهر والإفقار والإذلال إلا عند موته. وحتى بعد موته هذا، يمكن لذكراه، إن لم تُدنّس كثيراً في أثناء حياته في طاعة الحاكم والخضوع إليه، أن تنتصب خيالاً مُرعباً في وجه الخوف المُترسّخ في ذرّات وعي ولا وعي كلّ من يستبدّ. وذلك، على الرغم من كلّ مظاهر القوّة والجبروت التي تطغى على تصرفاته.
وفي حين يقف العالم على حافّة الجوع والموت والعطش والتلوّث والدمار، وشحّ الطاقة وزوال البدائل وانتشار الأوبئة، يجد بعضٌ منّا أنّ من المفيد التوقّف عند لون أو شكل قمصان فرق الكرة ليُسجّل موقفاً عدائياً تجاه الشقيق البعيد القريب. وفي المقابل، يجد أصحاب الفريق الآخر أنّه من المجدي تحدّي موقف الجار الشقيق قماشياً، والذي يجب أن يكون عدواً، في المِخْيال وفي الأداء، إلى الأبد، بمشيئة الحاكم التي غالباً ما تُناقض مشيئة المحكوم بأمره. ويتصارع الطرفان إعلامياً ليسجّل كلّ منهما موقفه الوطني من الأزمة الفادحة. وعلى الهامش الإعلامي، ستنهمر البرامج الحوارية والتصريحات النارية المتشبّثة بشكلِ ولونِ قميصٍ من قماشٍ، في حين أنّ ملايين الأفراد من شعوبهم المُفْقَرة والمسروقة ثرواتها الباطنية والعقلية، لا تجد قطعة من قماش تستر بها عوراتها الفيزيائية، وعورات حُكّامها الأخلاقية. وينتقل الصراع إلى الشتات المُهيمَنِ عليه حتماً من بلاد المنشأ، لتلتحم الأجساد بعنف، وتتضارب دفاعاً عن قماشة الفريق الوطني. وعندما تسخر منهم الحيوانات الأليفة وسواها، تراهم يبرّرون صراعهم البشري الخاوي بأنّه موقفٌ مبدئيٌ لا يجوز في حال من الأحوال حصره بقطعة قماش، وأنّ الذود عنه هو من أسس الانتماء إلى الوطن الأم، والاعتزاز بحاكمها.
من جهة أخرى، سيختلف بعضٌ منّا، أفراداً وجماعاتٍ، على جنس الملائكة، خلافاً يصل إلى حدّ المواجهة، والتكفير، والتخوين، والاستهزاء، خصوصاً وغالباً، على أراضٍ غريبة نظرياً، أصبح جزءٌ منّا لاجئين إليها بأمر الطغاة في البلد الأمّ أو لحاجة اقتصادية ماسّة، أسهم الطغاة في تهيئة شروطها الذاتية والموضوعية أو انتمى بعض منّا إليها اختياراً في ريعان الشباب أو بعد طغيان الكُهولة. ومن الأجدى أن نتبارى بدرجات معاناة كلّ منّا لنلعب دور الضحية الأكثر مشروعية. ومن المرحّب به أن نستعرض كلمات الإيذاء إيحاءً أو مباشرةً بحقّ من اختلف معنا في الرأي وفي الموقف. وقد يصل بنا ابتعادنا عن صلب الوجع، وتسلّينا بهوامشه، أن ننخرط، وهذا إيجابي في المطلق، في الحياة السياسيّة المحلّية حيث نقيم، جعجعة وصراخاً دوناً عن الانخراط المطلوب فعلاً ونشاطاً. فأغلب اللاجئين والمهاجرين غرباً، يعيشون في دول وفّرت لهم الحدّ الأدنى من حرّية التعبير.
يستهجن سوريون تمسّك حزب فرنسا الأبيّة اليوم بالقضية الفلسطينية
في التحضير الفرنسي الحالي لانتخابات البرلمان الأوروبي، المزمع عقدها في يونيو/حزيران المقبل، ومع استمرار الحرب الإسرائيلية على غزّة، يتبنّى أحد أطراف اليسار الفرنسي، وهو حزب فرنسا الأبيّة، القضيةَ الفلسطينيةَ بثقله كلّه، حتى وصل به الأمر إلى اختيار مرشّحةٍ فلسطينيةِ الأصل. وبعيداً عن الحكم على النيّات، التي ليس جديداً ولا غريباً ولا مستهجناً أن تكون انتخابية، فهي عملية سياسيّة في الأساس. وقد وجد هذا اليسار أنّها تستحق التبنّي، مبدئياً ومصلحياً، كي يتمايز أخلاقياً عن الآخرين الخاضعين لرغبات المُعتدي. وفي ظلّ هذا المناخ الاستقطابي حتى التطرّف، نجد بعض السوريين، ممن ينتقدون هذا الحزب على موقفه المُخجل فعلاً أو على "لا موقفه" مما جرى خلال السنوات الماضية من حربٍ على الشعب السوري، يستهجنون تماماً تمسّكه اليوم بالقضية الفلسطينية، مُعيبين عليه صمته السابق عن قضيتهم. فهل عاد بافلوف من موته ليحكم عقولنا؟
شعر بعض الضحايا الفلسطينيين بالضيق النسبي من ثورات الربيع العربي لأنّها حجبت الاهتمام بقضيتهم، فوقفوا غير مقتنعين إلى جانب الطغاة، قائلين بأولوية القضية المشتركة، وداعين إلى التمسّك بـ"البوصلة" القوميّة. واليوم، ومع العدوان الإجرامي على غزّة، يجد بعض الضحايا السوريين أنّه الوقت المناسب كي يتصدّوا لمن يتبنى قضية إنسانية وعادلة، بتذكيرهم بصمتهم السابق الحقيقي أو المُتخيّل. ورغم توفّر حسن النيّات وتأكد الانتماء الحميمي للقضية السورية، العادلة أيضاً، إلا أنّ ذلك لا يجب أن يُبرّر لهؤلاء من السوريين هجومهم على هذا الحزب. صراع الضحايا يؤدي إلى زوال القضايا.