صراع السياسة السَّلفي والسعودية الجديدة

06 أكتوبر 2020
+ الخط -

كيف تضبط الشعوب والأمم مفهوم الشراكة لأوطانها، وعلاقاتها الإنسانية المتعدّدة، وأين هي مساحة حرية الرأي والفكر والممارسة، في ظل المزيج المتعدّد؟ ومفهوم المزيج الفكري والاجتماعي لا يخصّ الدول المدنية الحديثة، بل هو واقع حياتي، كان يصبح عليه الإنسان، في أوطان المسلمين قديماً، فهو طبيعة بشرية. نعم هناك أقاليم لها سمات موحّدة في الدين والقومية، غير أن هناك أقاليم لها أبعادٌ تعدّدية واسعة، وفكرة أن العالم الإسلامي القديم، وحاضره المعاصر، لم يحتو على علاقات التعدّد، واحتواء اجتماعي، تعميم خاطئ.
هناك جاهليات اجتماعية واستبداد سياسي، وظّف المرجعية الدينية لصالح صراعاتٍ سياسيةٍ عديدة، خلقت مكونات تصنيفٍ ومذهبيات، وهي حالة عاشها ولا يزال تاريخ العالم قديماً وحديثاً، وبالتالي صُنعت مدارات صراع بين القوميات والأقليات. وفي حالة العالم الإسلامي وغيره، لعبت مشاريع الاستعمار والتدخلات الأجنبية دوراً فيه، فكلما تقلصت مساحة الاستبداد ضاق على المستعمر والمتدخّل الأجنبي، الولوج إلى المجتمع الشرقي، غير أن كارثة الاستبداد كانت حاضرة في تشكلات الأمة السياسية، حيث سعت الأنظمة القديمة في نموذج السلطنات، أو الدول القومية، إلى تعزيز ثقة الشعب والمجتمع بها، من خلال إيجاد رابطة ولاء، بحكم أنها تُمثّل الحماية لعقيدة هذا المجتمع، وهذه حيلةٌ بدأت منذ عهد بني أمية، ثم توسعت. وهناك قدرٌ مفهوم بل مطلوب، قد تقوم به الدولة لتعزيز رابطتها الرسالية بالإسلام، من دون أن تُظلم الأقليات أو تُخلق أقلية دينية بسبب صراع سياسي، يسعى النظام من خلالها إلى التحشيد الموالي للحكم.

قرّرت الدولة السعودية إنشاء نسخة حديثة من خطاب الدعوة الوهابية، مستخدمةً إمام الحرم، وعلماء كبارا من منظومتها الدينية

لكن وظيفة استخدام الدين ظلت حاضرة في عصبية الصراعات المذهبية، وساهمت في تمزيق حاضر العالم الإسلامي وإسقاط قيمه، وأحياناً تضليل الشعوب عن الفارق بين أغلبيتها وأقلياتها، في الخلاف في فروع العقيدة مثلاً، أو مسائل الكلام أو غير ذلك من قضايا، يتدخّل فيها البعد السلطاني في كل حقب التاريخ الإسلامي، منذ انحرف عن رسائل الإسلام الكبرى، ويُصنع منها قضية أمن قومي مزعومة مرتبطة به، فيتعقد المشهد. وبرز ذلك في العهد الصحوي الذي شهد تحالف الدولة السعودية مع الإخوان المسلمين وجماعات سلفيةٍ عديدة، ساهمت فيه قوة علاقة السعودية بالأميركيين، والميزانيات الضخمة التي ووجهت لأدوار وظيفية ضخمة، في هذه الجماعات أو الشخصيات، وبعضها بحسن نية، وبعضها تقاطع مصالح نفعية حادّة، فأحدثت هذه الأجواء معارك فرز صراعيةٍ شرسة، في المحيط السُنّي قبل غيره، فضلاً عن الأقليات.
ولكننا اليوم نعيش حالة ردّ فعل عنيفة، وإنْ بقيت آثار المشروع متغلغلةً في الأجيال التي خضعت برغبتها، لأجل الدخول تحت مفهوم الأمة السنية السعودية، في كل العالم الإسلامي، ومن خلال استخدام رمزية الحرمين الشريفين، بحكم أن الحجاز يقع في جغرافيا سلطة الدولة السعودية، وليس لأجل مرجعية الدولة في نجد، فالحجاز محدّدةٌ معالمه ومعروفة، ولا تشمل الأرض السياسية السعودية، في تصنيف التاريخ الطبيعي للجزيرة العربية، وفي المصطلح الشرعي المحسوم في تحديد حجاز الحرمين الشريفين.

المجتمع السلفي (الوهابي) المحافظ، الذي لا يؤمن بالتغيرات الجديدة، زُجّ أبرز شيوخه المحافظين في السجن، مع الإسلاميين والديمقراطيين الإصلاحيين

ساهمت هذه الدعاية في تقسيم حاضر العالم الإسلامي بين أمة أهل السُنّة السعودية والضالين المتعدّدين للأمة الكبرى لأهل السنة، قبل تغير التحالفات اليوم بين الجماعات الدينية، ونقلها من الرياض إلى الجمهورية التركية الحديثة، من خلال إعادة الإيمان بالفكرة العثمانية، مرجعا تفسيريا لعقيدة الموقف ولقراءة تاريخ المسلمين. ونحن اليوم نشهد صراعاً مضطرباً لم ينته، لكون المواجهة سياسية، لتحقيق مصالح وتدافع كبرى بين الجانبين، فلا نعرف هل سينتهي الصراع لحسم نفوذ التوظيف العثماني الجديد، أم تعود السعودية، لو تغيرت الأمور فيها سياسياً، لتتقاسم توظيف الجماعات الدينية مع أنقرة.

الحصار والضغط يُخشى أن يتحوّل إلى ردّات فعل عنيفة، بسبب وضع ضحايا هذا الفكر، في هذه الكمّاشة التي صنعها الاستبداد

وفي كل الأحوال، هناك اجتهادات دينية، وسمات تعبد وطبائع سلوكية، باتت اليوم ضمن أعراف عامة لشعوب وأقاليم، كثيرٌ منها له جذرٌ محافظٌ في مدارس تراثية قديمة. وبالتالي، وضع هذا المجتمع اليوم تحت فكر الصدمة، خصوصا حين قرّرت الدولة السعودية، في العهد الجديد، إنشاء نسخة حديثة من خطاب الدعوة الوهابية، مستخدمةً إمام الحرم، وعلماء كبارا من منظومتها الدينية، ليشاركوا التمهيد للبنية التأسيسية لسعودية العهد الدولي والعلاقات الإسرائيلية، فضلاً عن الحرص على استرضاء الغرب الأميركي وشروطه الثقافية. فلماذا يُحمّل المجتمع السلفي (الوهابي) مسؤولية هذا التوجه السياسي؟ وما هي حقوقه ضمن شعب الخليج العربي، وهو يعاني اليوم حالة من الخنق المعنوي المشترك، بين المؤسسة الرسمية السعودية وتيارات النقد الفكري والحقوقي العربية، بعضها جاد مستشكل، وبعضها موسمي وظيفي، تهاجم هذا المجتمع السَّلفي (الوهابي) في الخليج وخارجه، الذي يعيش حملات غير مسبوقة؟ فهذا المجتمع السّلفي (الوهابي) المحافظ، والذي لا يؤمن بهذه التغيرات، زُجّ أبرز شيوخه المحافظين في السجن، مع الإسلاميين والديمقراطيين الإصلاحيين، فهو يعاني من حصار واضطراب، وظلمٍ في التصنيف والتوجيه من داخل المشروع السعودي الجديد ومن خارجه، فأين هي مساحة الحقوق والشراكة لهذا التيار ذاته، في اختياراته وقناعاته، وكيف يبقى له حضوره الفكري التوافقي مع بقية أطياف الوعي الإسلامي، وشركاء المواطنة، من دون أن يُلزم بالتخلي عن قناعاته التعبدية، فجزء من هذه السلوكيات والتعبد المحافظ يواجه اليوم قلقاً صاعداً فتح الصراع السياسي له الأبواب، وحرّك عليه معارك كبرى، تنزع منه استقراره الإجتماعي وسكينته النفسية، فهو يتمسّك بجذور تدينه، وببعض فقهه المختلف عن أطياف إسلامية، لكونه يواجه هجوماً لرؤيته المحافظة، لا يتعرّض لها بقية المحافظين في العالم، من متشدّدي الديانات أو المذاهب.
هذا الحصار والضغط يُخشى أن يتحوّل إلى ردّات فعل عنيفة، بسبب وضع ضحايا هذا الفكر، في هذه الكمّاشة التي صنعها الإستبداد في كلا تطرّفه وانفتاحه المزعوم، ومهمة فكر النهضة الدفاع عن حقوقهم الشخصية، وتبيان مسطرة التصحيح الفكري عرضاً حرّاً لا مراغمةً قهرية.

18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
18C96C38-2AC9-45FF-A3F4-89E11ED2B781
مهنا الحبيل
مهنا الحبيل