صراعات جانبية قاتلة

21 اغسطس 2022

(كلود فيالا)

+ الخط -

يحلو لكثيرين ممن لديهم قضايا عادلة مهما تنوّعت، وتحظى بدعم النسبة الأكبر من ذوي الضمائر الحية، أن يخسروا، أو يساهموا في خسارة قضاياهم المساندة المطلوبة والمنشودة والضرورية من عناصر مفتاحية في مجتمعات كثيرة، يحتاجون فيها إلى صوت محلي يؤازرهم في مطالبهم بالاعتراف بحقهم المسلوب، مادياً كان أو معنوياً. وتنجم الخسارة غالباً عن مبادرات فردية أو جماعية تُساعد وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة في انتشارها كالنار في الهشيم. وبعدما كانت، حتى فترة قريبة، الأخبار الكاذبة أو المعلومات الناقصة عمداً أو المُغيّبة عمداً أيضاً تُواجَهُ بإعلانات صريحة عن حقيقة الموضوع، تكفي لكي تُجنّب الغالبية الوقوع في فخّ التصديق، صارت اليوم الأخبار الكاذبة أو المبالغ بها قصداً، أو المغرضة، هي المهيمنة. وقد أدّى ذلك إلى أن تغدو الشغل الشاغل للواعين من الناس، والذين ستتحوّل مهمتهم إلى نفي الأكاذيب أو تصحيح الأخبار المشوّهة، مبتعدين بالتالي عن صلب مهامهم الفكرية أو البحثية أو النضالية أو الإعلامية أو السياسية. 
ابتعد عقلاء كثيرون عن وسائل التواصل تحسّباً من عواقب ما سبق. عواقب لا علاقة لها فقط بالوقت المسفوح على هضاب النفي والتصحيح، ولكنها عواقبُ يمكن أن تُتَرجم أيضاً بخطر الوقوع في فخ التصديق والبناء عليه. ومن جهة أخرى، يتجنّب هؤلاء "العقلاء" الوقوع ضحايا الاستفزاز الرخيص، وبالتالي، المساهمة في تدحرج كرة ثلجٍ لا خيار لهم في رميها بدايةً، ولكنهم سيساهمون حتماً، إن وقعوا، في كبر حجمها وخطر أثرها. مقاومة التفاعل مع الأخبار الكاذبة أو الرد عليها أو حتى الوصول إلى خطيئة تصديقها، تحتاج حتماً، إضافة إلى الوقت الكثير، إلى طاقة نفسية وبدنية عالية تسمح لصاحبها بأن تتكسّر النصال على النصال في جسده وفي روحه، من دون أن ينزف إرهاقاً وخيبةً وإحباطاً.

من نافل القول إن "العدو"، مهما كان تصورنا له أو تعريفنا له، لديه القدرة الرمزية على أن يُحمّل جُلَّ ذنوب الناس

في السنوات العشر الأخيرة، ومع انتشار وسائل التواصل وتنوّعها، وقع تطوّر نوعي في حقل هذه الممارسات السلبية، فقد توسّعت دائرة الاتهام والتشويه والتكفير والتخوين... إلخ، من الحقل الوطني، مروراً بالإقليمي ووصولاً إلى الدولي. وصار من المتعب حقاً متابعة هذه المعارك على الجبهات كافة. وبالطبع، من نافل القول إن "العدو"، مهما كان تصورنا له أو تعريفنا له، لديه القدرة الرمزية على أن يُحمّل جُلَّ ذنوب الناس. وإنْ تجاوزنا هذه البديهة، فسنجد أنفسنا أمام تطوّر أخير لافت، وهو يتجسّد من خلال مهاجمتنا الصديق أو بجعله الرديئة المناسبة لما سبق تعداده من أمورٍ سلبية ترهق الحجر، فما بالنا بالبشر. 
تتنوّع الإساءات إلى القضايا العادلة بين المقصود منها وغير المقصود منها، فأن تنفي وزيرة سورية وقوع مجزرة للمدنيين بسلاح كيميائي استخدمته حكومتها، فإنّ هذا يدخل في صميم ترويج الأكاذيب، والتي تجد لها صدى، للأسف الشديد، في بعض الأوساط البافلوفية العربية حصراً. أما أن يذكر محسوبون على ضحايا القمع والقتل أرقاما مضخّمة للغاية، وبعيدة كل البعد عن الأرقام التقريبية دائماً، فهذه مبدئياً مبالغاتٌ بريئةٌ، لكنّها مسيئة بالمطلق لمصداقية ناشريها. وبالتالي، سينعكس ضعف المصداقية على صلب القضية نفسها. كما يبرع بعضهم بنشر مقاطع مصوّرة تُنسب لأحدهم، وهو غالباً غير معروفٍ على رؤوس الأشهاد، وتنسب له موقعاً دينياً أو سياسياً، وذلك بهدف إثارة السخرية من حمولة هذه المقاطع. لكنّ النفي سرعان ما سيصدُر موضّحاً أنك ساذج ووقعت في الفخّ إن صدّقتها. وهنا، تكون السذاجة الفعلية في عدم تبيان واقع لا لبس فيه: فمن كثرة التصريحات السياسية والمتلبسة لبوساً دينياً التي تبعث على الابتسام في أحسن الأحوال، صار الإنسان، مهما ارتفع معدّل الوعي لديه، سيُصدّق حتى الكاذب منها.

نبرع أحيانا بخسارة أفضل الأصدقاء الأجانب الذين صرفوا أعمارهم محبّة واقتناعاً بقضايانا العادلة

وأخيراً، وليس آخراً، لأن الموضوع يحتاج مجلدا ضخما للإلمام بجوانبه كافة، نبرع أحيانا بخسارة أفضل الأصدقاء الأجانب الذين صرفوا أعمارهم محبّة واقتناعاً بقضايانا العادلة. صحافيون وكتّاب وعلماء تعرّضوا لحملات تشويه من مغتصبي الأرض وسالبي الحقوق، نستطيع بنشر أكاذيب بحقهم أن نرمي بهم إلى هامش الحياة. وقد شهدت وسائل التواصل أخيراً حملة شعواء ضد صحافي سخّر جُلَّ نشاطه لفضح جرائم المحتل الإسرائيلي وإدانتها، وإدانة الاحتلال والاستيطان. وبالتأكيد، هو معتاد على ذلك، لكونه أساساً متأتياً من مؤيدي الاحتلال والاستيطان وأبواقهم الغربية، إلا أن الواقع الأليم يُشير إلى أنّ التشهير أتى من بعض أصحاب القضية. وخطيئته كانت أنه لم يتفق مع توصيفاتٍ معينة يتبنونها. وصار صهيونياً/ يسارياً أو عميلاً متنكراً. وقد نال كل من دافع عنه وأبرز دوره في فضح الاحتلال نصيبه من الاعتداء اللفظي. وفي المحصلة، اغتبط الصهاينة بحق لهذه المعركة شامتين بالرجل وبمن أيّده. ومؤكّد أنّ أصحاب القضية من مهاجميه خرجوا منتشين بفعلتهم رافعين الرأس عالياً، ومعتبرين أنهم قضوا على وعد بلفور. أما هو، فقد أغلق حسابه وانصرف إلى شؤون بيته وقطته. وفي ختام المشهد الميلودرامي هذا، كتب مؤرّخٌّ فرنسي مسخّر حياته الطويلة للتصدّي للاحتلال والاستيطان عبارة موجعة، لا أعتقد أن قراءتها تستغرق وقتاً طويلاً، قال فيها: "مع أصدقاء كهؤلاء، القضية ليست بحاجة إلى أعداء".