صبري الدست

14 سبتمبر 2023

(الهادي التركي)

+ الخط -

لماذا تذكّرت اسم صبري الدّست فجأة، وكأنه أمامي يضحك أو يمشي وراء أديبةٍ كي يتعرّف إليها في المؤتمر، ويأخذ بفرح رقم هاتفها ويحدّثها عن الجهود التي يبذلها بعد العمل الشاقّ في الكتابة والقراءة من دون أن تحنّ عليه السماء بانفراجة، بعدما هيمنت الحيتان على المشهد كله من المحيط إلى الخليج، وحتى على قلوب الكاتبات، ولم يتركوا للمظلومين سوى الفُتات والحصى والعاهات، فتبتسم الكاتبة وتمشى مهلّلة ناحية الشاعر الكبير، فيأخذُها مع فنجان القهوة إلى طاولته بعد أن يركن البالطو الصوف فوق ساعدها الأيمن، فتضعه باهتمام فوق حافّة الكرسي، فيحدّثها عن ذلك العمر الجميل الذي تولّى، وهو يأخذ نفسا من السيجار، ويسألها عن أخبار "نينة"، وهل غيّرت رقم هاتفها. يبتسم صبري الدّست، من وراء كتف الشاعر الكبير، حينما يسمع كلمة: "نينة"، ويحاول جاهدا أن يدخل دائرة أخرى من الكتّاب البسطاء يتساءلون في عجبٍ عن السبب الذي من أجله ضاعت منهم "منحة التفرّغ".

يعلّق صبري الدّست على الموضوع باسما، بعد أن يذكر أن لصاحبه صديقا مُضحكا، من كفر الزيات، هدّد رئيس اللجنة بقطع رقبته، فأعطاه منحة التفرّغ سنتين. تضحك كاتبة وتقول له: "مش معقول ده يا صبري ده كانت بقت غابة". يسكت صبري، ويمشي ناحية مجموعة أخرى من الأدباء بينهم كاتبة جميلة، ويظلّ هناك يتأمل المشهد، حتى يرى الشاعر الكبير بعد ما شال البالطو ومشى ناحية سيارته ومن خلفه الأديبة الشابة.

يظلّ صبري الدّست يحكي هناك حتى تنفضّ أيام المؤتمر، ثم يختفي عن المشهد تماما شهورا أو سنة من دون أن يُذكر، لا بخير ولا بسوء، قيل إنه بدأ يتاجر في السمك، وقيل إنه في ليبيا، حتي ظهر ثانية ببالطو وجلباب وعصا ويشتُم مصائب الحداثة وما بعدها. جلس في دار الأوبرا ليلتين يتكلم عن تلك القصيدة التي تأتيه في الأحلام، ثم تفر منه هاربة من كثرة النكد.

كان يبدو كريما ويكره جدا الأدباء البخلاء، وخصوصا أبناء المدن الذين خبزهم وعجنهم سنوات في المدينة الجامعية في غرفته الشهيرة، بعدما ترك الجامعة إلى غير رجعة، من دون أن يحصل على شهادته، بعدما تحول "العيال المخبرون"، إلى"دكاترة جامعة"، بحقائب خاوية من العلم في انتظار فرصة ما لعض أي كلب.

أخذ صبري الدست يتشاكل في أمر كتابٍ كان معه باهتمام بالغ، وهو المعروف عنه بعدم اهتمامه بأمر الكتب المهمة. أشعل سيجارة أخرى، ثم مشى ناحية البوفيه بخطواتٍ سريعةٍ كي يعدّ لنفسه طبقا، ويجلس هناك وحيدا في بقعة من الظلّ يتأمّل تمثالا فوق كتفه كان هناك، ثم أخذ يغنّي في مرح بصوت عال: "ان جتنا يا جميل، على عينا جيتك، وإن غِبت يا جميل، خلّيك على غيتك"، حتى سمعته كاتبة جميلة جدّا، فقالت: جميلة جدّا الكلمات، فردّ عليها: "الكلام الجميل، لأحمد ملوخية"، ثم أكمل: الناس الحلوة دي راحت فين؟ ثم أشعل سيجارة أخرى من عقب الثانية وأخذ يتأمّل غلاف الكتاب الذي شاغله.

كان صبري الدّست من النوع الظريف من دون أن يبدو على وجهه الظرف، ويحتفظ دائماً بملامح الجادّ والمهتم، والشغوف بأي موضوع، من دون أن يكون كذلك. ومن نوادره أنه ألّف كتابا قبل أن يقرأ كتاب الجاحظ عن البخلاء، فلمّا وجد كتابه أكثر جمالا من كتاب الجاحظ عن البخلاء، حرقه في الفرن كي لا يحرق الذكرى الطيبة للجاحظ من ذاكرة القرّاء.

كان لصبري الدّست زوجة وحيدة والدها. ورثت دكّان بقالة صغيراً عن والدها الذي كانت تربطه بصبري صلة قرابة عن طريق أمّه الطيبة التي مات زوجها صغيراً، فورثت معاشه من السكّة الحديد.

ظلّ صبري سنوات يرفع القضايا ضد السكّة الحديد سنوات كي يحتفظ بسكن والده المجّاني في طنطا ولكنه فشل. وعلّق على ذلك بأن محبّته السيد البدوي لم تشفع له في السكة الحديد. سمعتُ، من سنوات تزيد عن العشرين، أنه وُجد غريقاً في "ترعة المحمودية" بملابس ملطّخة بالدم، وكأنني الآن أرى غرفته من بعيد مضاءة إلى ما بعد الفجر في المدينة الجامعية.

720CD981-79E7-4B4F-BF12-57B05DEFBBB6
عبد الحكيم حيدر

كاتب وروائي مصري