شيّدوا الأسوار .. البؤساء يزحفون
مطلع تسعينيات القرن الماضي، كان انهيار سور برلين رمز نهاية مرحلة وبداية أخرى، وبعد قليل أطلق الرئيس الأميركي، جورج بوش الأب، خطاب "النظام العالمي الجديد"، متخذًا تحطيم الأسوار شعارًا: في السياسة والاقتصاد والثقافة. واليوم تبني اليونان سورًا على حدودها مع تركيا، وتبني تركيا سورًا على حدودها مع إيران، وقبلهما بنت أميركا سورًا بينها وبين المكسيك، و... وهكذا، في سنوات معدودة أصبحت الفوضى كلمة واسعة الانتشار في الخطابين الإعلامي والسياسي العالميين، بعد عقود من اليقين الزائف في عولمةٍ، انطلقت متفائلة، ثم انتكست منذرةً بمرحلةٍ من تاريخ العالم، مخاوفها أكبر بكثير من آمالها. كانت سنوات ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي سنوات آمال عريضة، آمال عزّزها التلخيص المخلّ لمشكلات العالم بوصفها ناجمة عن عامل واحد: "إمبراطورية الشر".
وخلال السنوات العشر التي افتتحتها تونس (2010) بـ "ثورة الياسمين"، ارتفع صوت المخاوف، وأضيف إلى قائمته مزيد من العواصم التي تتجه نحو "سياسات ما قبل العولمة"، وصولًا إلى السياسات "الحمائية" الواسعة التي اعتمدتها إدارة الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب. والعودة إلى ما قبل العولمة شملت أنماطًا من الرغبة القوية في الاختباء وراء أسوار من أنواع شتى. والخوف من عشرات الملايين المتحرّكة، بدافع الأمل أو اليأس، أصبح قضية عالمية كبيرة (ومزمنة) بين شمال المتوسط وجنوبه، في طوابير الهجرة غير الشرعية بمآسيها الدامية.
لمعالجة المشكلة المرشحة لمزيد من التفاقم لا يكاد يوجد موقف دولي لـ "تجفيف منابع الهجرة"
وفي الهلال الذي كان خصيبًا (!) تحرّك الملايين فارّين من "داعش" أو بطش نظام بشار الأسد. وفي شرق آسيا الأكثر اكتظاظًا بالسكان، هرب ملايين من الصين وميانمار وغيرهما، حتى بدأت التحذيرات الإقليمية والدولية من موجة هجرة مليونية محتملة من أفغانستان. وفي مواجهة التحذيرات والسيناريوهات المتشائمة، بدأ جيران الشمال والغرب يتخوّفون، وشرع بعضهم يبحثون عن الأمن في بناء الأسوار. وهكذا انعكس المسار الذي بدأ مع انهيار سور برلين، وأصبحت هجرات البؤساء عبئًا ثقيلًا على الجميع تقريبًا. ولمعالجة المشكلة المرشحة لمزيد من التفاقم لا يكاد يوجد موقف دولي لـ "تجفيف منابع الهجرة"، فالمهاجرون بالفعل والمهاجرون احتمالًا يفرّون من فشل ما في بلادهم، وطموحهم إلى حياة إنسانية مشروع، وعجز العالم عن إيقاف مسلسل انضمام مزيد من الدول إلى قائمة "الدول الفاشلة"، من المحتمل أن يجعل هذه الأسوار شواهد مقابر جماعية لملايين يفرّون "من الموت إلى الموت!" (بحسب عنوان تحقيق صحافي فرنسي نشر نهاية سبعينيات القرن الماضي عن هجرة مسلمي ميانمار إلى بنغلادش).
"وباء الحل الأمني" بدأت عدواه تنتشر خارج عالم الجنوب .. وليس بـ "الأسوار" وحدها يأمن الإنسان
وما أحجم الغرب عن الاعتراف به، وسعى إلى حلّه من مشكلاتٍ ترتبت على الفشل الاقتصادي والسياسي في دول عديدة، يتحوّل اليوم إلى خطر قد لا تستطيع الأسوار درءه. وكان الأجدى، والأكثر عدالة والأقل كلفة، أن يحاصر العالم وباء الاستبداد والفساد، وأن يوفّر أفق أملٍ لسكان الجنوب والشرق. ومن العقلانية الاعتراف بأن تغليب "المصالح" على "المبادئ" أحد الأسباب الرئيسة في مشكلات اليوم، وما يمكن أن تُسفر عنه من كوارث في المستقبلين القريب والبعيد. والعالم الذي بدأ يدفع بالفعل فاتورة التحرّك متأخرًا في مواجهة التغير المناخي لا يستبعد أن يدفع ثمنًا أفدح لتأخره (بحسابات نفعية قصيرة النظر) في اقتلاع أسباب فشل "الدول الفاشلة"، حيث قدّمت نظم استبدادية، على المدى القصير، في حالاتٍ كثيرة، منافع آنية لحكومات وشركات غربية، بطريقة أفقرت مئات الملايين، وكان الربح العاجل سببًا في دفع ملايين اليائسين في الجنوب والشرق إلى التحرّك باتجاه الشمال والغرب، بحثًا عن مهربٍ من مصير فاجع. وموجة بناء الأسوار المشار إليها، وقد لا تكون الأخيرة، مؤشّر إلى أن علاج الأسباب والجذور ليس واردًا، على الأقل حتى الآن، ما يعني أن "وباء الحل الأمني" بدأت عدواه تنتشر خارج عالم الجنوب.
.. وليس بـ "الأسوار" وحدها يأمن الإنسان.