شيرين عبد الوهاب في "عين الحلوة"
كان العام الماضي الأسوأ في حياة شيرين عبد الوهاب، وأظنّها الأفضل من بين بنات جيلها، فهي تتمتع بموهبة فطرية نادرة، وبقماشة صوتية قوية وهشّة في الوقت نفسه، جعلتها تفترق عن نمط الغناء الشعبي الذي كان يتجه إليه أغلب أصحاب الموهبة الفِطرية (أحمد عدوية، فاطمة عيد، شعبان عبد الرحيم، إلخ)، وتقترب من العاطفي بل وتتفوق فيه. رافقت هذه الانعطافة انتقالة أخرى طبقية، وحادّة إذا شئت، من طبقة فقيرة إلى ثراء وشهرة مدوية، وهو ما تسبّب بتكسّرات نفسية عميقة لفنانةٍ عُرفت بأنها بنت بلد، على ما يذهب الوصف المصري في مقاربة أولئك الذين لا تغيّر من عاداتهم ولا قيمهم ثروة مفاجئة أو سلطة واسعة.
حافظت "بنت البلد" على ما يمكن اعتبارها أصالتها واندفاعتها العفوية في الحياة، وظلّت مرتبطة برفاقها القدامى. لكنها، على الرغم من ذلك، ارتبطت بعلاقات مسمومة، وتعرّضت للاستغلالين المادي والعاطفي، ما أوصل التناقضات بين عالميها، القديم والجديد، إلى الانفجار، فغرقت في الكآبة: قصّت شعرَها، وتعاطت المخدرات، ثم انفصلت عن زوجها وعادت إليه، في أحداث متلاحقة جعلتها حديث الناس ما بين مُشفق وشامت، وبدا كأنها طفلة وحيدة رُميت في ليلٍ تحت جسر في منطقة مهجورة، بلا حماية على الإطلاق، وسط قطيعٍ من الذئاب... وكما في التراجيديات الكبرى، لا بد من العودة إلى حضنٍ آمن، إلى الطفولة مثلاً أو الأم، للبكاء أو بحثاً عن صخرة صلبةٍ تشكل الانطلاقة الجديدة للمخذول والمُخان.
ذهبت شيرين عبد الوهاب إلى بيروت، وتحديداً إلى مخيم عين الحلوة، والتقت هناك بالمطرب فضل شاكر، وهو يضاهيها موهبةً ويشبهها في أمورٍ كثيرة، ومن بينها ربما أنه كان ضحيّة، على نحو ما، لعلاقاتٍ ارتبط بها. وإذا كان لكاتب هذه السطور أن يتطرّف في الوصف، فإن شاكر قد يكون صورة شيرين الذكورية، أو أناها الآخر. وأظن أنها ذهبت إليه بحثاً عن صخرتها المتمثلة ببداياتها الصافية والبريئة، لتقول لنفسها من خلاله "كل عام وأنت حبيبي"، وهو عنوان أغنيةٍ مشتركةٍ لهما، شاعت وانتشرت كثيراً في فترة صعودهما الفني.
هل أخطأت شيرين عبد الوهاب؟ لا أعتقد، بل أظنّ أنها فتحت من دون أن تدري ملفاً معقّداً في لبنان، يتعلق بارتباط اسم فضل شاكر بأحمد الأسير. ويظنّ كثيرون أن الاثنين مفترى عليهما، أو على الأقل فضل شاكر، فالأسير لم يكن مجرماً بحسب مناصريه، بل معارضاً قوياً للنظام السوري في بدايات الثورة، وللجماعات المؤيدة لهذا النظام، وخصوصاً حزب الله، وأنه سعى إلى إيجاد "حالةٍ سُنية" متماسكة وصلبة في مواجهة سلاح حزب الله، وهو ما استفزّ الحزب والقيادات السنية التقليدية في البلاد، ومن بعدهما الجيش اللبناني الذي دُفع إلى الاصطدام بجماعة الأسير.
أياً تكن التأويلات ووجهات النظر في حركة الأسير، فإن فضل شاكر كان في بؤرة الأحداث الملبسة حقّاً، والتي كان الأسير طرفاً فيها، وأظنّه (شاكر) كان يتحرّك بتلقائية وبراءة في بيئةٍ بالغة التعقيد سياسياً واجتماعياً، فدفع ثمناً باهظاً لا يتناسب مع ما نُسب إليه من فعل غير مُثبت (حتى الآن).
ارتبط اسم شاكر بالأسير، وثمّة فرق بين القضية والشخص، كما ارتبط اسم شيرين بحسام حبيب، ووُجهت انتقادات للاثنين أنهما تعرّضا للاستغلال، وأنهما متعلقان عاطفياً على نحو مرضيٍّ بمن ارتبط اسماهما بهما، وأنهما دفعا ثمناً باهظاً لاندفعاتهما العاطفية، وأنهما عرّضا مستقبلهما الفني للخطر، وأنهما يتّجهان نحو الانتحار الفني، إذا لم يكبحا اندفاعتهما العاطفية ويبتعدا عمن يسيطر عليهما ويوجههما.
ابتعد فضل شاكر عن الأسير، فقد اعتقل الأخير، بينما اعتصم شاكر بمخيم عين الحلوة بعد الحكم عليه بالسجن، لكنه بدأ يفك الحصار المضروب عليه بالعودة، وإنْ بخجل، إلى الغناء. وإذا كان ثمة من فضيلة للقاء شيرين به، فهي أن يحفّز السلطات، أو الرأي العام اللبناني، لإعادة النظر في ملفّه بشكل منصف، ليكون العام الحالي بداية عودته الحقيقية إلى فنّه ومحبّيه. كما يؤمَل أن يكون أيضاً بداية لعودة ظافرة لشيرين عبد الوهاب التي رفضت عروضاً مجزيةً لإحياء رأس السنة، لتكون بمعية رفيقها القديم.