شعارات التضحية بالآخرين
تُرفع الشعارات، عادة، لأجل التعبئة، وتعني: إقناع الشعب بفكرة، أو تصرّف، أو سياسة تريدها السلطة. والتعبئة نوعان: الأول؛ في الدول الديمقراطية، وتتعلق غالباً بالصحة العامة، كتقديم النصح للمواطنين بأخذ لقاح كورونا، أو تنبيههم إلى وجود مياه ملوثة، أو ماركة أطعمة فاسدة في السوق، أو تُعلمهم بإجراءات إدارية تعتقد الجهة التي تنفذها أنها تفيد المواطنين، أو التحذير من فكر إرهابي .. ومن أجمل ما قرأتُ في ألمانيا، مثلاً: الفاشّية ليست وجهة نظر، بل جريمة. الثاني؛ في الدول الديكتاتورية، وهذه مصيبة المصائب، وكارثة الكوارث، فهي لا تسعى لإقناع أبناء الشعب بحقيقةٍ ما، بل لتزوير وعيهم، وحشوه بالأوهام، من أجل التنكيل، أو التضحية بهم.
الحاكم الديكتاتوري مولع بالتضحية (بغيره). ولذلك كان حافظ الأسد يُكثر من الحديث في خطاباته عن الشهادة، وقبل أن يخطُب، يوعز إلى كاتب خطاباته أن يؤلّف له أقوالاً تبدو عظيمة، لكنّها غير ذات مصداقية، مثل: الشهداء أكرمُ مَن في الدنيا وأنبل بني البشر .. وقد اشتغل حافظ، كما تعلمون، على احتضان أسر الشهداء، ورعاية أبنائهم، فافتتح لهم مدارس حديثة، مزوّدة بأحسن المعلمين والأبنية والإداريين، وأنفق عليهم، من المال العام، الشيء الكثير. ولم يكن ذلك لأجل سواد أعينهم، وأعين آبائهم الذين تسبّب بموتهم في حروبه المشبوهة، بل ليكسب جماعة جديدة موالية له، بدليل أنّ فريقه الإعلامي اشتغل على تدجين أولئك التلاميذ، وأطلق عليهم اسماً مُهيناً: أبناء القائد.
ومن الأوهام الكبرى التي حشا نظامُ حافظ الأسد أدمغتَنا بها، وما زلنا نتوارثها من جيل إلى جيل: ضرورة أن نتّحد، نحن أبناء الشعب، في مواجهة العدو الخارجي... هذه الأكذوبة كانت تدعمها المؤسسات الإعلامية، وتطرُشها في كلّ مكان، حتى على الحيطان، باستخدام مصطلحاتٍ منمّقة، مثل: الاتحاد قوة. رصّ الصفوف. اللُّحمة الوطنية. التكاتف. التآخي. كلّ شيء للمعركة... ويستمر الإلحاح عليها في الإعلام، والمهرجانات الخطابية، حتى يصدّقها قسم كبير من الناس، فيندفع بعضُهم، بفيضٍ من العاطفة، لتنفيذها... وهناك حادثةٌ جرى تناقلها سرّاً، تؤكد هذه الفكرة؛ أنّ مجموعة من سكّان أحد أحياء دمشق، خرجوا، ذات مرة، فور سماعهم خبر اعتداء إسرائيل على إخوتنا الفلسطينيين، في تظاهرة عفوية، فاصطدموا بقواتٍ من الأمن تطوقهم، ويطلب منهم رئيسُ الدورية، عبر مكبر الصوت، أن يتفرّقوا، قائلاً ما معناه إنّ الحق معكم، لكنّ التظاهرات (العفوية) في سورية الصمود والتصدّي ممنوعة، وإذا كنتم مصرّين على الاحتجاج على جرائم العدو الصهيوني، انتظروا حتى تنظّم القيادةُ الحكيمة مظاهرة احتجاج، واخرجوا فيها.
تتلخص الفكرة الأساسية لشعارات التعبئة الجماهيرية التي تطلقها الأنظمة الديكتاتورية عموماً، والنظام السوري خصوصاً، في: إطلاق الشعار، وترويجه، وممارسة نقيضه على أرض الواقع .. فحينما كان الطيران الإسرائيلي يحصد القوات السورية، في حرب حزيران (يونيو) 1967، وقادة الوحدات ينفذون أمر الانسحاب الكيفي الذي أصدره وزير الدفاع حافظ الأسد، كان المذيع يصيح من إذاعة دمشق: اضرب يا أخي الجندي، لا ترحم أعداءك، ويختلط صياحه بأغنية "ميراج طيارك هرب"... والنظام السوري، مقابل دعواته إلى التآخي، والتعاضد، والتمسّك باللحمة الوطنية، كان يمارس تمييزاً ممنهجاً بين أبناء الشعب، فيعطي ميزاتٍ كبيرةً لأبناء مكونات قومية، أو دينية، أو مذهبية معينة، ويعادي مكوناتٍ أخرى، وعندما يُطلق حملة دعائية لأجل التقشّف، وشد الأحزمة على البطون، لا بد أن يكون هدفها التغطية على عمليات نهبٍ كبرى، تستبدل فيها الدولارات بالعملة الوطنية، والدولارات توضع في رزم، وتُشَدُّ بمطّاطات، وتُرسل، سكارسا، إلى بنوك سويسرا، وتودَع بأسماء أبناء العائلة المالكة الذين يتحدّثون عن فضائل الاستشهاد في سبيل الوطن، لكنّهم لا يحبّونه، ويحذّرون أبناءهم منه. ولأجل مزيد من النكاية، يمنّون على الشعب بأنهم أكسبوه ثوابَ التقشّف، وأتاحوا لمن يستشهد فرصة الخلود في الجنة!