سيف المُعِزِّ وذَهَبُه يتسلَّطان على العلماء
من أمثلة العرب الشهيرة عن إغراء الحكام أو استبدادهم قولهم "سيف المعزّ وذهبه"، فالحاكم قد يُغدق على من يريد استقطابهم إلى جانبه، أو قد يُشهِر سيفه إذا رفع أحدُهم صوته بما لا يعجبه، واستخدام السيف والذهب لا قاعدة لهم، فكل حاكمٍ يتصرّف فيهما وفق مراده. وفي الاجتماع البشري ما يشبه ذلك، إذ يقول العلماء إن الإنسان يتنازعه نازعان؛ إما الرغبة في السيطرة، أو الاستعداد للطاعة، وربما يكون للمؤمن الذي صفا قلبه نازع ثالث؛ وهو الامتثال للتوجيه الإلهي.
يقترن صفاء القلب بأمرين؛ أقواهما المعرفة، وتلحقها التزكية، فقد يعرف الإنسان خالقه حقّ المعرفة. ومع معرفته، فإنّ سلوكه يجافي ما عرف، وبدلاً من الارتقاء بروحه يتسفَّل في دَنَسِ الدنيا وعلائقها. لذا اعتنى أهل العلم بالتَّزْكِيَة أكثر من اعتنائهم بطلب المعرفة، وحفلت مجالسهم وحلقاتهم بالتزكية خلال التدريس والتعليم. صحيحٌ أنّ المدوَّن منهم وعنهم، في أغلبه، كان من العلوم التي يحتاجها الناس لإصلاح معاشهم ومعادهم، لكن ربما صدر ذلك منهم لأنّ مدار التزكية على المعاصرة والمعاشرة، فاكتفوا بكتاباتٍ قليلة في التزكية مع ممارساتٍ لا حصر لها.
تحدّث علماء التزكية عن العلاقة بين الشيخ وربِّه، وبين الشيخ والطالب، وبين الشيخ وأقرانه، وبين الشيخ والسائل عن الفتوى، وبين الشيخ وعموم الناس، وبين الشيخ والحكّام، والعلاقة الأخيرة ملأت الكتب عن أحوال العلماء الكبار وما لاقُوه من عَنَتِ الحكام، كأبي حنيفة ومالك وأحمد وغيرهم، حتى إن الإمام أبا حنيفة قال في الخليفة أبي جعفر المنصور وأشياعه: "لو أرادوا بناء مسجدٍ وأرادوني على عَدِّ آجُرِّه (حجارته) لَمَا فعلت"، أما المنتسبون إلى العلم في زماننا فيفخر بعضهم بأنه يقال عنهم: علماء السلطان، فأي شذوذ وانحراف هذا؟!
الحاكم قد يُغدق على من يريد استقطابهم إلى جانبه، أو قد يُشهِر سيفه إذا رفع أحدُهم صوته بما لا يعجبه
إذا نظرنا إلى المتصدّرين الرسميين في الدولة المصرية مثلاً، فإننا نعلم أنهم ينتسبون إلى التصوّف، ويا ليتهم تحقّقوا بعلوم التصوّف وآداب ساداته كما تلقينا منهم، لكن منهم مَن عَلَّمونا وجافوا كلامهم، وكان من جملة ما أرشدونا إليه علوم العَلَم الإمام عبد الوهَّاب أحمد الشَّعْراني، وله كتاب سماه "إرشاد المغفلين من الفقهاء والفقراء إلى شروط صحبة الأمراء" واختصره بعد ذلك، وكان الباعث على تأليفه ما بلغه "من مزاحمة فقهاء هذا الزمان وفقرائه (أهل الطريق) على مصاحبة الأمراء من غير معرفتهم بشروط الصُّحْبَة".
نَقَل الشيخ عبد الوهاب الشعراني عن شيخه شيخ الإسلام زكريا الأنصاري قوله: "ربما صَحِبَ طالبُ العلم الأميرَ، وأحبَّه أشد المحبة مع شدة ظلمه للعباد والبلاد، وكثرة ما يقع فيه من الفواحش؛ (...) لأجل إحسانه إليه بالمال والجاه، وإقباله عليه بالمحبة دون أقرانه". وقال الأنصاري أيضاً: "لا ينبغي لطالب العلم أن يصحب أميراً إلا بعد المبالغة في الزهد فيما في يد الأمير، وإلّا فمَن لازَمَ ذلك عَدِمَ احترام الأمير له؛ فلا يكاد يخاف منه، ولا يقبل له شفاعة، ولسان حاله يقول: كلانا يُحبّ الدنيا وشهواتِها، فما ثَمَّ تمييز بيني وبينه".
كان الشيخ الشعراني تلميذاً لأحد كبار محققي الشافعية، شيخ الإسلام زكريا الأنصاري، الذي كان ينصح تلامذته بتجنّب الظالمين، والمبالغة في الزهد فيما في أيدي الأمراء بشكل عام، لكننا نجد الذين يُدَرِّسون كتب الشيخ الأنصاري، وهم يتودّدون اليوم إلى الظالم المستبد، ويقبلون عطاياه ومِنَحَه، وهو يَمُدُّ لبعضهم بتخصيص السيارات للانتقال، أو توليتهم المناصب التي لا علاقة لتخصّصهم العلمي بها من أجل العطايا المالية والتوسعة عليهم، فكيف نتوقع منهم النَّكير على الظالم بعدما أحاط بحياتهم وجعلها حياة مترفة، فما عادوا يقدرون على تحمُّل السَّلْب بعد العطاء.
ومن بصيرة الشعراني قوله: "ومن أخلاق أحدهم أن يكون أزهد في الدنيا من الأمير دون العكس، وذلك بردِّ جميع هداياه، فإن الأمير ما أهدى للفقير شيئاً إلا بعد أن زهد هو فيه، ولو أنه كان راغباً فيه ما قدر أحد على إخراجه من يده، فشيءٌ يزهد فيه الولاة الذين هم مشهورون بالظلم والجور، فكيف يقبله سيدي الشيخ الذي هو مشهور بالعلم والصلاح؟! هذا من قَلْبِ الموضوع". يصدر هذا الكلام من أحد الفقهاء الشافعيين الكبار، وأحد سادة الطريق المشار إليهم، وهو يشير إلى خِسَّة ما يخرج من الوالي الظالم، وأنه لم يُخرجه إلا بعد أن أَنِفَ منه، ولم يجد له حاجة في نفسه، فألقى به لمن استصغرته نفسه، وعَلِمَ منه أنه سيقبل بفضول ما زهد هو فيه.
أصبح خلق كثيرون يميلون مع الحاكم أينما يَمَّمَ وجهه، ولو اتجه إلى ظلم صريح وقتل فاضح
وقد اعتنى الإمام الشعراني بالقلوب في صحبة العالم للأمير، فنَقَل عن شيخه علي الخَوَّاص قوله: "ينبغي لكل عالم صَحِبَ أميراً أن يحفظ قلبه من الميل إليه بالمحبّة، ويخبره بأن كل شعرة فيه تلعنه وتكرهه إذا وقع في شيء من ظلم رعيَّته، وذلك ليخرُج من صحبته على سلامة، ولا يلحقه بسبب عَزْله أو موته سوء، وإياكم أن توافقوه على بعض عَدُوِّه فتخرجوا عن سياج الفقراء، وتكونوا تحت حكم الأمير عكس حال العلماء العاملين". والشيخ علي الخواص هذا كان أُمِّيّاً لا يعرف القراءة والكتابة، لكنه خرج من تحت يديه الشعراني وغيره. ومن صفاء نفسه خرجت منه هذه الكلمات التي تدلّ على مَسِير الصالحين، لا مسير أصحاب المصلحة، وإن تَزَيَّنُوا بالعمائم والمسابح والخِرَق، وقد أصبحوا يوافقون الحاكم على عدوِّه؛ مُمالَأةً له لنيل عطاياه، أو خوفاً من حجبها أو سجنهم إذا لم يوافقوه.
ما تشهده الحالة الدينية في عموم الأقطار الإسلامية يشير إلى وَهَنٍ كبير أصاب المحاضن العلمية التي أخرجت المنتسبين إلى العلوم الدينية، واختراقٍ واسع أصاب أغلب أصحاب المناصب الدينية الرسمية، وقد أصبح دعاةٌ ومنتسبون كثيرون إلى العلم يخافون من إنكار ظلم الحكام، بعدما شاهدوا نظراءهم في السجون، وأصبح خلق كثيرون يميلون مع الحاكم أينما يَمَّمَ وجهه، ولو اتجه إلى ظلم صريح وقتل فاضح، قالوا له "اضرب في المليان" فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.