سيرك حيوانات أنيس الرافعي
يعرّف المغربي أنيس الرافعي (1976) كتابه الحادي والعشرين "سيرك الحيوانات المتوهّمة ..." (خطوط وظلال للنشر والتوزيع، عمّان، 2021) على الغلاف بأنه "حقيبة رسومات ومنولوجات"، وبأنه "سرد". ولا إشارة، حتى في التعريف الداخلي به، إلى أنه قصصٌ قصيرة. وهو يضمّ، بعد 120 من الشذرات والتأمّلات والخواطر والقصيْصات و...، سرْد 30 حيوانا 30 منولوجا يمكن حسبان كلٍّ منها أيضا حكايةً أو كلاما طلْقا أو استرسالا، غير أن ثمّة حذرا في الكتاب المتفرّد من أن تُسمّى هذه السرود قصصا قصيرة. ومفارقة المفارقات، الباهظة الإيحاءات والمغازي هنا، أن هذه النصوص الثلاثين، وكذا التذاكر المجّانية للدخول إلى السيرك، على ما سمّى أنيس الرافعي تلك التقدّمات (الشذرات و...)، تُحرِز جائزة الملتقى للقصة القصيرة، الإثنين الماضي، متفوّقةً في هذا على 240 مجموعة قصصية تنافست على الجائزة المقدّرة التي ترعاها جامعة الشرق الأوسط الأميركية في الكويت، ويشرف عليها القاص والروائي الكويتي، طالب الرفاعي.
وبذلك، يكون حقيقا بإعجابٍ خاصٍّ ما يصنعه أنيس الرافعي في سُروده هذه، أنه يرجّ، أو يُخلخل في اعتبارٍ جائز، المفهوم المعهود للقصّة القصيرة، أن "قصصَه تتحدّى القارئ في وعيه، وتُزعزع لديه أعراف التلقّي التي رسّخها فنّ القصّ التقليدي"، على ما قال، محقّا تماما، رئيس لجنة تحكيم الدورة الخامسة لجائزة الملتقى للقصة القصيرة، عبدالله إبراهيم، في كلمة حفل إعلان "سيرك الحيوانات المتوهّمة ..." عملا فائزا بالجائزة، وتكريم الرافعي وزملائه في القائمة القصيرة. وفي قولٍ آخر، يرى كاتب هذه السطور أن صاحب "الشركة المغربية لنقل الأموات" (2011) يتحدّى نفسَه في هذا العمل، الذي يواصل به "مشروعا قصصيا" يعكف عليه بدأبٍ ومثابرة، ويمضي فيه مُحقّقا، من مجموعةٍ إلى أخرى، نقلاتٍ مفاجئةً أحيانا ونابهةً غالبا، منذ أول مجموعاته "فضائح فوق كل الشبهات" (1999)، وصولا إلى "السيرك" الأخّاذ الذي شاركه فيه بحقيبة رسوماتٍ التشكيلي الأردني محمّد العامري، فصِرنا أمام عملٍ لا يكتفي بمناوشة الأجناس السردية وأنواع الحكي، وبعمائر من القصّ، صُغرى وغير صُغرى، تنهضُ على مزاوجة الواقعي بالعجائبي، وتداخل الغريب بالمعهود، وتشابك الحقيقي بالتخييلي، وتوازي الحُلُمي بالمعيوش، وإنما أيضا تُؤاخي مع الرسم وضربات الريشة، لنصيرَ قدّام "ساردٍ يختلق الحيوان وفنّانٍ يروّضه بالألوان"، على ما قرأنا في واحدةٍ من التذاكر المجّانية للدخول إلى سيرك الحيوانات "الرمزي الكرنفالي"، على ما يخلع أنيس من صفاتٍ على الذي كتَبه وأفضى به. ولمّا اجتمع المكتوب مع المرسوم، يفيدنا بكأنّه "بمحمّد العامري لا يرسم أجساد الحيوانات، وإنما أرواحَها المتخيّلة".
شذرةٌ، أو واحدةٌ من التذاكر المجّانية للدخول إلى السيرك، "القصّة القصيرة أن تُخفي بقرةً داخل قبّعة ساحر". وهذا قولٌ مستفزّ للمخيّلة وللذائقة، ولكل خبرةٍ في مطالعة القصص القصيرة، بل ولفعل القراءة نفسه أيضا. والسحر في واحدةٍ من إحالاتِه لعبٌ واحتيالٌ وإدهاش. وأنيس الرافعي في الذي يأخذُنا إليه، مجّانا بالتذاكر تلك، يصنع سيركا "لا تنتهي أبدا عروضُه، مثل آلة كمانٍ لا تجفّ منها الألحان، تعزف لوحدها إلى ما لا نهاية، حتى من دون وجود أيّ عازف". وفي هذا احتيالٌ ظاهر، أداتُه اللغة، وما يأتيه اللعب في مساحاتها التعبيرية التي يجول فيها أنيس الرافعي، من دون أن تُغويه شِعريّاتٌ أو استعارياتٌ أو مجازاتٌ مُفرطة، فاللغة في منولوجات الكركدن والكنغر والتمساح والقندس والسحلية والبلشون (طائر) وآكل النمل والنمر والدبّ والحمار الوحشي ... محضُ وسيلةٍ ليفيض الواحد من هؤلاء مما فيه عن حيرتِه وتحوّلاته وخوفه، وعن وقائعَ غَشيتْه وأحاسيسَ استشعرَها، يسرُد عن هذا كله وغيره، يسترسل ويوجِِز، يُخفي ويشطَح، يوضِح ويُلغز. وفي كل الحالات، ثمّة قصّةٌ، حكايةٌ منسرحة، لا أغالي لو كتبتُ هنا إن البديع فيها هو الإدهاشُ في تمثّل النصّ الحيوانَ الذي يحكي. يقول القندس: "كأني طبّالٌ يقرع جلد الماء، لم أنقطع عن الرجّ حتى استنفرت الجميع". يقول الضفدع: "...، وبعد أن انقلبتُ مجدّدا على بطني بصعوبةٍ عسيرة، رغبتُ أن أوجّه أمرا لأرجلي، فوجدتُ أن رقبتي هي المستجيبة، ...". يقول القرد: "...، وقبل أن أغلق التابوت على نفسي بقبضتيّ الذابلتين، وتحلّ دهمة العتمة، تكرّمت فتاةٌ حسناءُ بوضع باقة زهور، ثم التقطت لي صورة باسمة بأسناني الفولاذية الكبيرة".
في "سيرك الحيوانات المتوهّمة ..." قصةٌ قصيرةٌ عربيةٌ مُغامِرة، جديدة، تفرض على كتّاب النقد تحدّيا ثقيلا، والمغامرة الحكائية هنا تجري في "حلبةٍ دائريةٍ لعروض الأجناس والأنواع الأدبية النطّاطة". على ما صدق أنيس في ما كتب.