سيد المظلومين محمد القصبجي
صادف يوم 26 الشهر الماضي (مارس/ آذار) ذكرى مرور خمس وخمسين سنة على رحيل الموسيقار الكبير، محمد القصبجي (1892- 1966)، وهو واحد من "القَرَامي" الكبيرة التي صنعت النهضة الموسيقية والغنائية المصرية، والعربية. كان يروق لأم كلثوم، في المسلسل الجميل الذي كتبه عنها محفوظ عبد الرحمن، وأخرجته إنعام محمد علي، أن تتحبّب إليه فتناديه "يا قَصَب".. وهو لقبٌ معبّر، بالنظر إلى وجود آلة موسيقية ذات صوت عامر بالحنان تحمل هذا الاسم، الناي، مع العلم أن الآلة التي أبدع القصبجي فيها هي العود، ومن ألقابه الشهيرة "سيد عازفي العود".. وحكاية أول عود صنعه الفتى محمد القصبجي تستحق أن تُحكى، فمع أن والده كان أستاذاً يعلم عزف العود، إلا أنه لم يعطه ثمن عودٍ يتعلم عليه، فأحضر من دكان النجار قطعة خشبٍ متطاولة ذات رقبة، وثبت عليها "رزّتين"، وشد عليهما بعض الأوتار، وكلما انقطع وتر من عود والده يتلقفه ويشدّه على قطعة الخشب، إلى أن كان له ما أراد.
ولكن نصيب محمد القصبجي، هذا الملحن العبقري، من أضواء الشهرة كان أقلّ مما جاء إلى غيره، حتى عُرف بلقب "سيد المظلومين". ويعود هذا الغبن، في أغلب الظن، إلى ظهور مجموعة من الملحنين المبدعين الكبار حوله، أبرزهم زكريا أحمد، وسيد درويش، ورياض السنباطي، ومحمد عبد الوهاب، إضافة إلى أن القصبجي متواضع، لا يجيد إدارة نجوميته. وسبب آخر، أن المنافسة الحامية بين الملحنين، أصبحت، ابتداء من أواسط الثلاثينيات، تتمحور حول صوت كوكب الشرق، أم كلثوم، مع العلم أن القصبجي من أوائل الذين لحّنوا لها، بل إنه ساهم، مع أبو العلا محمد، في إطلاقها، وهو الذي علمها المقامات الموسيقية والعزف على العود، وأسطوانة أغنيتها "إن كنت أسامح وأنسى الأسية" التي لحّنها لها حققت ربع مليون من المبيعات.
كانت أم كلثوم ترى محمد القصبجي سابقا عصرَه.. إلا أن سوء الحظ أعاد عليه الكَرَّة عندما بدأت المنافسة الكبرى تظهر مع أغاني "ثومة" الطربية الطويلة التي تحتاج شغلاً هائلاً في التأليف؛ إذ تبدأ بمقدّمة طويلة نسبياً، تليها مجموعة كوبليهات، يستعرض فيها الملحن مخزونه الموسيقي ومهاراته العالية، و"معلميته". ولولا أن القصبجي لحّن لها الأغنية المعجزة "رقّ الحبيب" في سنة 1944، لساد لدى المتلقين اعتقادٌ بأنه غير قادر على مواجهة تحدّي تلحين الأغاني الطويلة.
حفظ محمد القصبجي القرآن الكريم، ودرس اللغة العربية والفقه والتوحيد في الأزهر، وتخرّج في دار المعلمين برتبة معلم، إلا أن عالم الغناء والموسيقى بقي مسيطراً على روحه. وللعلم، بدأ القصبجي مطرباً، وهناك تسجيلٌ نادر لأغنية "يا شاغلني في بعدك" بصوته. وقد غنّى زكي مراد، والد ليلى مراد، أول لحن للقصبجي أغنية "ماليش مَليك في القلب غيرك". وفي سنة 1920، اتجه إلى تلحين الطقاطيق، فكتب له الشيخ يونس طقطوقة "بعد العِشا، يحلا الهزار والفرفشة" التي غنّتها السلطانة منيرة المهدية، وكان الناس يستمعون إلى هذا النوع من الأغاني بشيءٍ من التحفظ، لورود كلماتٍ قليلة الاحتشام في سياق الأغنية، كما في الكوبليه الأخير: أوعى تسهّيني بقى، وإحنا في عز النغنغة، وتمد إيد، وهزار يزيد، عارفاك أكيد، إيدك تحب الزغزغة.
لا يمكن لأي دارسٍ أو متابعٍ أن يحيط بالكم الهائل من الأغاني التي قدّمها القصبجي لأصحاب الأصوات الجميلة في ذلك العصر، وأية ألحان؟ هل تمعنتم، ذات مرّة، بلحن "يا طيور"، وانتبهتم إلى أن الموسيقى وصوت أسمهان يتناغمان كما لو أنهما "رفّ حساسين"؟
لا تحتاج عبقرية القصبجي إلى براهين كثيرة، يكفي ما قاله الموسيقار محمد فوزي عن لحن أغنية "أنا قلبي دليلي" إنه ليس لحنًا من عام 1947 وإنما من عام 2000.