سوزانا التي تعيش على حافّة الماء
قالت الطاهية السلفادورية السبعينية سوزانا: "أحسستُ أن تلك المرأه الجميلة السعيدة المنطلقة، عاشقة الحياة التي كنتها ذات يوم، أخذت تموت في داخلي تدريجيا. عندها حلّت الكآبة، وتراجع الأمل كليا". كان ذلك ضمن سلسلة مختصّة بأميركا اللاتينية في برنامج وثائقي ذكي شائق شهير بعنوان "طعام الشوارع"، يمزج ببراعة بين عرض الأطباق الشعبية وقصص الطهاة والطاهيات الشخصية بتاريخ البلد وملامحه الفارقة، من طبيعة جغرافية وتاريخ وموسيقى وشعر ورقص وعادات وطقوس، فيتلقّى المتابع وجبة ثقافية معرفية دسمة، ويتسنّى له، من حجرة جلوسه، السفر والتجوال في الشوارع والأزقة والشواطئ البعيدة، موفرا على نفسه إجراءات الحصول على تأشيرات السفر وكلف التذاكر الباهظة، وساعات الانتظار المرهقه في قاعات الترانزيت.
تكمن جاذبية البرنامج في أنه انصرف عن المطاعم الراقية الفارهة ذات الأسعار الفلكية وأدوات الطعام المعقدة مجهولة كيفية الاستخدام، بل توجّه إلى ضجيج الشوارع، حيث الصخب والروائح الزكية المنبعثة من أكشاك الفقراء الذين يكدّون في سبيل تأمين لقمة عيشهم المغمّسة بالصعوبات.
قالت سوزانا، من بيتها الصغير بجدرانه الملوّنة الذي تضربه أمواج البحر المتلاطمة، حيث تعيش على حافّة الماء، كما وصفت: "سخر مني الكثيرون، لأني أتلعثم في الكلام، خلقت معقودة اللسان، غير أن ذلك لم يهمني قط، لم آبه لهم، ولم أشأ الرضوخ لأي عملية تصحيح، رغم إلحاح أمي. قلت لها: ولدت هكذا وسوف أموت هكذا". سردت المرأة التي تشبه نساء الروايات الحزينات في الأدب اللاتيني، بملامحها المتعبة، قصة كفاحها ونجاحها، رغم ظروف العيش الصعبة، حيث الفقر المدقع والحرمان والمرض والخيبة والخذلان. وبلغةٍ بسيطةٍ عميقةٍ تشبه الشعر، واصلت سرد الحكاية: "ولدتُ وتربّيتُ قرب البحر، ولم أغادر قط، في السلفادور البحر كل شيء. لم أسأم منه يوما، وهناك التقيتُ زوجي وربّيت أولادي. البحر يمنحني الطاقة ومعنى الوجود، يعمل زوجي صيادا، ومن البحر كنا نقتات رزقنا يوما بيوم، مدّني الطهي بالسكينة، وهو ما يمنحني البهجة في حياتي. قبل ذلك، كنت أعمل في غسل الثياب، لأساعد زوجي وأعيل أفراد عائلتي، لطالما حلمت بأن أكون طاهية محترفة، مثل أمي التي كانت تعد أطباقا شهية، وقد رافقتها في المطبخ طوال طفولتي وشبابي. وبرعت بشكل خاص في إعداد طبق "الموكيكا" الشهير في بلادي. زار العمدة حينا القديم ذات مرّة لإطلاق مشروع ترميم كبير، وكانوا يبحثون عن طهاةٍ لإطعام العمال.
سألوني إذا كنتُ قادرة على إطعام 50 عاملا ثلاث وجبات في اليوم. اعتقدت أن الفرصة قد حانت لتحقيق حلمي، غير أنني لم أمتلك الأدوات والمواد الغذائية اللازمة، فحصلت على قرض، واشتريت كل ما يلزمني، وقد ملأتني الحماسة، تركتُ العمل في غسل الملابس، كي أتفرّغ لوظيفتي الحلم. طهوتُ لهم مختلف الأطباق التي أحبوها. ولكن حين انتهى المشروع غادروا من دون تسديد أجري. وبعدما تعرّضت للخداع، لم أرغب في الطهي ثانية، وعدت إلى غسل الثياب".
لم تنته حكاية سوزانا عند ذلك الحدّ، لأن كل شيء تغيّر، حين زارها فنّانو غرافيك، وصلوا إلى حيّها للرسم على الجدران، مطالبين إياها بالطهي لهم. ألحّوا عليها رغم تمنّعها، ودفعوا لها مقدّما، كي يحفزوها لتقديم "الموكيكا"، وهي طبق السمك مطهّوا بزيت النخيل والتوابل. ونشروا قصتها وسوّقوا طبقها الشهي في مواقع التواصل الاجتماعي، وأعلنوا عن بيتها مطعما مرتجلا شديد البساطة والأصالة، فنالت الشهرة الواسعة، وارتاد مطعَمها السيّاح من كل مكان. وباتت من أشهر الطهاة في بلدها، وصارت مثلا حيا لنموذج المرأة المناضلة التي لم ترضخ للتحدّيات، وأعادت الأمل إلى روحها، وحقّقت حلمها، فدبّت الحياة من جديد في تلك المرأة المتوارية في داخلها، وقد كادت أن تقضي لولا فسحة الأمل.