سوريون بلا أصدقاء
بمناسبة عيد الصداقة العالمي الذي صادف قبل أيام، لا بد من الإقرار بحقيقةٍ واقعةٍ هي أننا، نحن السوريين، خُلقنا لنعيش من دون أصدقاء. ثمّة سلسلة من القواعد التربوية تلقيناها ونحن في عمر الزهور، أولُها أن الناس بلاء الناس، وثانيها يا جاري أنت بحالك وأنا بحالي، وثالثها إياكم ورفاق السوء، ورابعها "لا تعاشر الردي بيرديك".. وكان معلم صفنا إذا أراد أن يوبّخنا يقول: آه منكم يا أولاد الأزقة.. هذا لأن الوضع الطبيعي للتلميذ النجيب، المربّى في بيته ومدرسته، بحسب معلمينا وآبائنا، أن يبقى في بيته لا يخرج إلى الزقاق إلا في الضرورات القصوى.
نحن، إذن، أمام ثقافةٍ تمتدح العزلة والانغلاق، وتجعلهما موضعاً للفخر والتباهي. وفي هذا الصدد، نتذكر نادرة سياسية بطلُها رئيس وزراء سورية الأسبق، فارس الخوري، الذي كان، ذات سنة، منهمكاً بتشكيل حكومته، فجاءه واحد من معارفه يرشّح له شخصاً ما. سأله عن مواصفاته؛ متوقعاً أن يكون مختصاً في الاقتصاد، مثلاً، أو في إدارة الأعمال، وعنده سجل شخصي يشير إلى خبراته في التجارة، أو الزراعة، أو الصناعة، أو الإعمار، ولكنه فوجئ بوصف هذا الرجل، المرشّح لحمل حقيبة وزارية في دولة صاعدة، بأنه: إنسان طيب جداً، ملتزم ببيته، قليل الكلام، لا أصدقاء له، طول عمره ما دخل سرايا، ولا مخفرا. قال فارس بيك للرجل، بكل احترام: أقترح عليك أن تزوجه أختك!
وحقيقة أن ذلك الشخص لا يصلح لأن يكون (حتى) زوجاً للأخت، بدليل حكاية قديمة متداولة في أرشيف عائلة بدلة، ملخصُها أن رجلاً من معرتمصرين أراد أن يخطب لابنه إحدى بنات عمّي، وكانت فتاة جميلة، فذهب إلى أخيها محمد الذي وُلّي أمرها بعد وفاة الوالد، وفاتحه بالموضوع. ومن قبيل مديح "البضاعة" أمام الزبون، راح يمدح سجايا ابنه: "ابني بيمشي جنب الحيط وبيقول يا رب سترك، ما بيشرب، ولا بيدخن، ولا بيقرا جريدة، وما له أصحاب، ولا أصدقاء". فقال عمي محمد للرجل: "بظن إذا بتبقى أختي عايشة معنا راح تكون مبسوطة أكتر من عيشتها مع ابنك".
ولعل من حسن حظنا، نحن السوريين، أننا نمقت النصح، والوصايةَ بشقّيها، البيتي والمدرسي. لذلك، وما إن شممنا رائحة إبطنا حتى تحوّلنا إلى بشرٍ نهمين للصداقة. ومن تجربتي، وأنا أخوكم، صادقت عدداً لا يستهان به من الناس، وكانت عندي طبيعة، ظننتها جيدة، ولكن معظم الناس يعتبرونها سيئة، وهي أنني أحب الصديق وأتحمّس له من دون تردد أو تحفظ، ومن دون ترك مسافات أمان.. في سنة 1982، كنت في خدمة الجيش الاحتياطية، فالتقيت بشابٍ يشبهني بهذا الحماس للصداقة، وكان يحكي لي كل شيء عن نفسه وعن أسرته، ويريد أن يعرف كل شيء عني، فأخبرتُه أنني متزوج حديثاً وعندي بنت صغيرة اسمها ريتا، فصار يناديني "أبو ريتا".. وذات يوم سبت، كان عائداً من قريته بعد الإجازة الأسبوعية (خميس وجمعة) وجاء يبشرني، والفرح يغمره، بأن زوجة أخيه ولدت بنتاً، وكانوا يبحثون لها عن اسم. قال: "قلت لهم، بحضي وبديني ما منسميها غير ريتا، ولو إنكم بتعرفوا أبو ريتا تَـ تسموها ريتا عْلَى العمياني". لم أقل شيئاً، كنت أصغي إليه، وأنا مستمتع بهذا الكم الهائل من الحب وطيبة القلب، فاعتقدَ أنني غير مسرور لما حصل، فراح يسوّغ لي فعلته: "شوبك أبو ريتا؟ أوعى تفكر إنه خيي ومرته مو كيسين، بحضي خيي مهندس ومرته دكتورة، ولولا هيك ما بقلهن يسموا البنت ريتا".
معظم السوريين، بلا شك، طيبون، وأوادم، ومستعدّون لصداقة الآخرين بقلب طيب، ولكنّ ما نراه بينهم اليوم من ضغائن ومشاحنات، سببه، في ظني، الكارثة الكبرى التي حلّت بهم، والأمل كل الأمل أن يراجعوا أنفسهم، ويدركوا أهمية الصداقة حتى في بناء الأوطان.