سورية يا أبو الشباب اليوم
أعرف رجلاً سورياً ظريفاً، عندما يتحدث يلفظ النصف الأول من جملته، ويضع عبارة "يا أبو الشباب" في الوسط، ثم يكمل الجملة. يبدو أن استخدامه الجملة الاعتراضية يمنحه فرصةً لترتيب أفكاره، أو استدعاء فكرة أخرى من عُمق ذاكرته... هذه الطريقة معروفة في اللغة العربية، فأجدادنا القدامى كانوا يدحشون في جملهم عبارات من قبيل: يا رعاكَ الله، أو يا طويل العمر، أو لَعمرك، أو لا أبا لك.. والشاعر اللبناني سعيد عقل أكثر من جرى على استخدام الاعتراضية، كما في قوله: من روابينا القَمَرْ، جاءه (أم لا) خَبَرْ؟
يبدو السوريون اليوم، يا أبو الشباب، متآلفين مع أوضاعهم، فما عادوا يطمحون إلى إسقاط النظام، أو يحلمون بالانتقال السياسي، وتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، فتراهم يتحدّثون، بشيء من الارتياح، عن استئناف وزارة النقل الجزائرية رحلاتها الجوية إلى سورية، مثلاً، ولكنهم، سرعان ما يتساءلون: ما نفع ذلك إذا كانت السماء، كما قال نزار قبّاني، ممطرةٌ، والطريق مسدود؟ المطارات السورية، يا أبو الشباب، معطّلة، وما إن تنتهي صيانتُها، وإعادتها إلى الخدمة، حتى تسارع إسرائيل المجرمة لقصفها، فإذا صدق الزعم الإسرائيلي إن إيران تتّخذ منها مقرّات عسكرية، يفكّر السوريون: لماذا تصرّ إيران على الوجود في بلادنا؟ ولماذا تخبّئ أسلحتها وذخائرها، في مطاراتنا المدنية؟
كان السوريون المعارضون يفرحون عندما تُغلق إحدى الدول العربية سفارتَها وقنصليتها في وجه نظام الأسد المجرم، على أساس أن هذه المقاطعة الدبلوماسية ستؤدّي إلى خنق النظام، وإماتته سريرياً، لكنهم أصبحوا، اليوم، يفرحون، ويستبشرون عندما تبادر إحدى هذه الدول لإعادة فتح قنصلية للنظام في عاصمتها، مثلما فرح عشرات الألوف من السوريين المقيمين في السعودية، بافتتاح القنصلية السورية في الرياض، أخيراً، لأنهم ذاقوا، في السنوات السابقة، الأمَرَّيْن وهم يبحثون عن دولة شقيقة أو أجنبية فيها قنصلية للنظام (المجرم) لكي يدفعوا لها ما لا يقل عن 500 دولار، مقابل الحصول على جواز سفر مدّته سنتان ونصف السنة، لا يخوّلهم الدخول إلى أي مكان من دون فيزا، بينما الجواز الألماني، مثلاً، يكلف 45 يورو، وفيه صلاحية عشر سنوات، ويدخل به حاملُه إلى 193 دولة من دون فيزا.. ناهيك عن مشكلتين مزمنتين تعترضان كل من يراجع القنصليات السورية، المبعثرة في بعض الدول، أولاهما أنه لا يوجد لدى القنصليات، غالباً، جوازات سفر فارغة، وثانيتهما أن التسليم يكون بعد عدّة أشهر من تاريخ تقديم الطلب، وإذا دفعتَ ضعفي المبلغ تأخذه خلال عشرة أيام، وهذا اسمُه "فوري"، وفي كل الحالات يوجد سماسرة يحلون لمن يدفع أكثر أية مشكلة نعترضه، مقابل إكرامية مالية!
أصبح عقل الإنسان المعارض، اليوم، يا طويل العمر، جَوْزَتين في خُرْج، فإذا غاب ماهر الأسد عن الظهور في الإعلام شهراً، يحكون للناس أنه قتل، أو اغتيل، ويضعون سيناريوهاتٍ لما سوف يترتب عن اغتياله من نتائج، وعندما استبدل بشّار الأسد بوزارة رئاسة الجمهورية، الأمانةَ العامة للرئاسة، ذهب بعضُهم إلى أن الأسد وعصابته يجمعون "كلاكيشهم" استعداداً لمغادرة سورية، ولكي نصدّقهم، نحن عموم السوريين، يهمسون لنا بوجود قرار أميركي أوروبي إسرائيلي ينصّ على أن رحيله بات وشيكاً!
يتحدّث بعض السوريين، لا أبا لك، إن راتب الموظف السوري بات يكفيه وأسرتَه لتناول وجبة طعام فاخرة في أحد المطاعم، ويطلقون ما يشبه "حزّورة رمضان"، عما يمكن أن يفعل بين تلك الوجبة ونهاية الشهر. والحقيقة أنه لا توجد أسرة سورية تقيم في الداخل، وليس لها أبناء في الخارج، فالموظف الذي يقبض راتباً شهرياً مقداره مائتي ألف ليرة، تأتيه فوقها حوالة مليون ونصف، (مائة دولار)، لكي يستطيع أن يكمل الشهر من دون أن يضطر للاقتراض أو التسوّل. فهل فهمت، يا أبو الشباب، قصّتنا؟