سليمان خاطر في ذاكرة شخصية
بالأحمر، وبخطّ اليد، وفوق ترويستها في الصفحة الأولى، عنونت صحيفة الأهالي المصرية المعارضة "هل انتحَر أم انتحَروه؟"، ردّا على إعلان السلطات المصرية انتحار المجنّد المصري، سليمان خاطر، في محبسه. أتذكّرني، وأنا في شبه إقامةٍ في القاهرة استمرّت نحو ثلاثة أشهر، أقرأ ذلك المانشيت، ولا أظنّني سأنساه، وقد مرّت عليه 37 عاما. وصلتُ في أكتوبر/ تشرين الأول 1985، أياما قليلة بعد قتل خاطر سبعة سيّاح إسرائيليين (وجرح أربعة) في أثناء نوبة حراسته في موقع حسّاس بين طابا ونويبع (في منطقة سيناء؟) بعد تحذيرٍ منه لهم، ولم يستجيبوا. وبأنفاس الذي عبر للتوّ إلى عشرينياته وفضوله، تابعتُ شيئا من "الجوّ" العام منذ الواقعة مرورا بمحاكمة سليمان خاطر والحكم عليه بالسجن 25 عاما، ثم الإعلان الرسمي عن انتحاره في السجن، (نُشرت أنباء عن دفع الدولة المصرية نحو 107 آلاف دولار لكل أسرةٍ من أسر القتلى، تعويضا). وفيما كان المجنّد الشجاع في السجن، كان الشارع المصري ينتصر له، ويعتزّ به، ويصفه بالبطل، فيما ظلّ الإعلام الحكومي وحواشيه يرميه بالجنون والمرض النفسي، حتى إذا جاءت حكاية الانتحار أشعلت غضبا واسعا، وأبانت عن مسافاتٍ شاسعةٍ بين الحسّ الشعبي العام والمنطوق الرسمي. ولا تزال الشكوك في قصة الانتحار على قوّتها، فسليمان خاطر (24 عاما) الذي كان في خدمته العسكرية الإلزامية فلاحٌ متديّن، وليس من باعثٍ يأخذه إلى قتل نفسه، والترجيح الذائع أن عناصر من "الموساد" أمكن لها التسلّل إليه وقتله.
كانت مطالعة عديد من الصحف والمجلات المصرية، الموالية والمعارضة، من أهم مشاغلي هناك، في وسط البلد والعجوزة وغيرهما، كما اللقاءات مع كتّاب وأدباء مصريين كثيرين، محمود أمين العالم وعبد الحكيم قاسم وصنع الله إبراهيم وعبده جبير وإبراهيم عبد المجيد وسعيد الكفراوي أمثلة. وظلّ سليمان خاطر الحدث الأهم، وإن ثمّة مهرجان القاهرة السينمائي وأنشطةٌ فنيةٌ وثقافيةٌ تابعت ما تيسّر منها. كان في الصحافة المصرية بعضُ روح، وكانت سقوف المعارِضة منها عالية بعض الشيء، ولشدّ ما كانت تروق لي التحقيقات الاستقصائية الحسنة الإنجاز في شؤونٍ محلية. وكانت المساحات التي تتركها السلطة للمعارضة الحزبية والثقافية جيدة في شؤونٍ دون أخرى. والنقابات لا تتوقّف عن الاعتصامات والاحتجاجات لشؤون مطلبية وسياسية. ولم يكن حسني مبارك قد دخل في قصة تصنيع نجله جمال، غير أن بؤس إدارته أزمة واقعة سليمان خاطر، وسبَقَها الاعتداء الأميركي بتوجيه طائرةٍ مصريةٍ وإجبارها على سيرٍ آخر، وكانت تقلّ متّهمين بخطف سفينة أكيلي لاورور، كما وقائع أخرى، دلّت كلها على ارتهان الحكم في مصر للقرار الأميركي ومداهنته الاعتبارات الإسرائيلية.
يُتَذكّر سليمان خاطر شهيدا وبطلا مصريا شعبيا، بعد أن أمكن لمجنّد مصري (أعلن أن اسمه محمد صلاح) قتل ثلاثة جنود إسرائيليين وجرح اثنيْن، قبل أيام. والمؤكّد أن شُغلا رسميا مصريا ينشط من أجل ألا يُؤخذ صلاح، وقد استُشهد في الواقعة، إلى الأمْثلة والأيْقنة، وهو الذي يُحرِز أطنانا من مشاعر الزهو المصري به، والإعجاب العربي الواسع ببطولته، غير أن السلطة الراهنة في مصر لا تتيح الحيّز الكافي للفضاء الاجتماعي والطلابي والنقابي ليُتاح التعبير عن الفرح بهذا الشهيد. كما أن المزاج العام مختلفٌ كثيرا عن ذلك الإيقاع الذي كانت عليه الحالة المصرية إبّان خاطر. ومؤكّد أن طلاب الجامعات المصرية على غضب شديد من سوء الأداء الحكومي بشأن الحدث المستجد، والتبخيس من القيمة العليا لما صنعه الشهيد صلاح، وفي البال أن طلاب جامعة عين شمس وغيرها هتفوا في تلك الاعتصامات "سليمان خاطر مش مجنون/ قولوا عليه مقدرش يخون".
ليس من ممدوح عدوان يكتب عن محمد صلاح، وهو الذي كتب ".../ دقّي إذن مزيكة الحرب البهيجة/ واضربي في القلب وحدك يا طبول تصيح الأرض بالعربية الفصحى/ سليمان الذي بالفأس أنطقها وعرّبها/ سليمان الذي بالقهر أيقظها فقالت كل ما تبغي النفوس". ليس من مظفّر النواب يكتب عن صلاح، وهو الذي كتب "هذا الهرم الطفل/ احتوى أسرار مصر كلها وأقانيم الروح والخلود/ أما كان كليم الله في رابية الطود/ وناداه: سليمان بن خاطر طهر البيت من الأرجاس وانزل أرض مصر". وليس من عبد الرحمن الأبنودي يكتب، وهو الذي كتب "يا اسمر يا أبو عيون سود/ فكّيت طلاسم سحرنا المرصود/ وعدل وشّ الزمن".
ليس من صحيفةٍٍ معارضة في مصر الراهنة تُبدع مثل ذلك المانشيت الباقي "هل انتحر أم انتحروه؟".