سلوك الأكابر وتواضع الكبار
للمرة الثانية، خلال ما يقارب السنة، أتعرّض، أنا أخوكم، للحظر المنزلي، بسبب كورونا وأخواتها. الحظر، بالنسبة لمن كان كثيرَ الكارات والهوايات مثلي ليس سيئاً، فالجلوس الطويل في البيت يكفي لتغذية هواياته، ويزيد. كنتُ، في السابق، أكتب نصوصاً تلفزيونية، ومع ذلك لم أحب الفرجة على التلفزيون قط، لأن الوجود أمام الشاشة، في توقيتٍ محدّد، مناقض لطبيعتي غير المنظمة. وفيما بعد، أحببت "يوتيوب" و"نتفليكس"، لأن المرء يستطيع أن يشاهد ما يحلو له، في الوقت الذي يحدّده، ويتوقف عن المشاهدة ويستأنفها عندما يريد.
البرامج التلفزيونية الحوارية المنوّعة تروق لي أكثر من المسلسلات الطويلة، وبما أن السيدة أم مرداس محظورة معي، ولأنها صاحبة ذوق ولباقة، فهي تتفرّج على ما أختاره أنا، وهذا يمنحني الفرصة لأظهر نفسي أمامها معلماً، فهيماً، وأعرض عليها ملاحظاتي عن المادة التي نشاهدها .. ذات مرة وفقنا بيوتيوب لبرنامج قديم تعده وتقدمه الإعلامية المصرية، ليلى رستم، يتضمّن مقابلة مع عميد الأدب العربي طه حسين، فاستخدمتُ في وصف البرنامج كلمة "كِبار"، وشرحت لها أن الكلمة تركية (kibar)، ولكن أصلها عربي، وتقال عن إنسان كبير الوزن والقيمة، ومع ذلك لطيف ومهذب.. وفي شرح الأسباب، قلت إن اللقاءات التلفزيونية التي أجريت مع طه حسين، هذا المفكر التنويري الكبير، قليلة، لذا تعاملت المحطة التلفزيونية التي استضافته معه بأسلوب الـ كِبار، إذ حشدت لأجله، في الأستوديو، شخصيات أدبية رفيعة المستوى إلى درجة أن كل واحد منهم يستحق حفاوة مماثلة، يوسف السباعي، وعبد الرحمن الشرقاوي، ونجيب محفوظ، ومحمود أمين العالم، وأنيس منصور، وثروت أباظة، وأمين يوسف غراب، وكامل زهيري، وعبد الرحمن صدقي، وعبد الرحمن بدوي.
ولدى الفرجة على برنامج فني، قلت لها إن المبدعين الكبار يستمرون بالعطاء، بعد أن شابت شعورهم، واحدودبت ظهورهم على مبدأ السنابل التي تنحني من ثقل الثمر الذي تحمله، وفي بعض الأحايين يُقْدِمُون على الدخول في تحدٍّ غير معلن مع بعض المبدعين الجدد الذين تُشعرهم لذّة البدايات الناجحة الأولى بأنهم جاؤوا من فراغ، ويتمتعون بالفرادة، أو كما يقول المثل الشعبي "خرطهم الخراط ومات". ويوافق بعض أولئك الكبار، أحياناً، على ظهور إعلامي صاخب، على الرغم من أنهم في وضع صحي تحرجه الشيخوخة، مثلما فعل الكبيران، زكي ناصيف ووديع الصافي عندما لَبَّيَا، في أواسط الثمانينيات، دعوة لحضور حفل فني أقامه إعلاميون لبنانيون، وكان وديع يومها في أواسط الستينيات من عمره (من مواليد 1921) وزكي ناصيف متجاوزاً السبعين (من مواليد 1916).. وكان من الطبيعي أن يخطف هذا الثنائي الخارقُ الأضواء، بالأخص حينما بدأا يغنيان "اشتقنا كتير يا حبايب نمشي دروبنا سوا" التي أبدعها زكي ناصيف. وهنا يقول وديع لزكي أنت زكي ناصيف الكبير المبدع العظيم، فيدفعه زكي بيده خجلاً ويقول له (حاجتك بقى) ..
وينتقلان بعدها إلى أغنية "طلّوا حبابنا طلّوا" التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، عندما لحنها زكي ناصيف في سنة 1957 لوديع الصافي، ضمن عمل فولكلوري يحمل عنوان "عرس القرية"، قُدم في مهرجان بعلبك الدولي السنوي. وفي أثناء تقديم الأغنية لم يكف ذانك السبعينيان عن الرقص، وهو ليس رقصاً احترافياً بارعاً، ولكن يخيل لمن يشاهدهما وكأن تاريخ الفن في هذه المنطقة كله يرقص أمامه بحبور. ومن الأمور التي تلفت نظر مُشَاهِد هذا الشريط أن صبيةً جميلة جداً، ترتدي لباساً فولكلورياً، يبدو أنها كانت مكلفة من منظمي الحفل بالرقص، تقترب من مكان وجود العملاقين وترقص، وهنا تندّ عن أحد الحاضرين صيحة لا إرادية، ويقول لها: مو هون مكانك .. وبمصادفة غريبة يتضامن معه المصوّر، وينقل زاوية التصوير، بحيث يظهر زكي ناصيف ووديع الصافي وهما بعيدان عن الفتاة الجميلة.
أخيراً؛ وفي انتظار انتهاء الحظر والتخلص من الخوف والكمامة، أرجو للمحظورين أمثالي إقامة ممتعةً ومفيدةً.