سلاح المقاطعة بوجه الجشع
أتابع في هذه الأيام حملات مقاطعة منتجات غذائية، وأخرى استهلاكية، في بعض دول الخليج، بعد ارتفاع أسعارها بشكل يكاد يكون غير مسبوق، ومن دون أسباب حقيقية. ورغم أنني لم أر نتائج كبيرة ملموسة نتيجة هذه المقاطعات المتنوّعة، والتي شاركت في بعضها، إلا أن هذا لا يمنع من استمراري في المقاطعة، وتشجيع غيري أيضاً عليها، خصوصاً أن هناك بدائل كثيرة لها، فالسوق يعجّ بمنتجاتٍ كثيرة، يمكن أن نستبدلها بالمنتجات التي رفع التجّار أسعارها فجأة. وإذا كان هذا النوع من الجبنة قد ارتفع سعره، فهناك عشرات بل مئات الأنواع الأخرى من الجبنة التي لا تقلّ عنها جودة يمكننا التوجه إليها بسهولة، بدلاً من التذمّر السلبي، ثم الانقياد لرغبة التاجر الطماع، ودفع ما يريده من أموالٍ لا يستحقها منتجه غالباً.
طبعاً، يعيد كثيرون أسباب ارتفاع الأسعار للظروف الإقليمية والدولية، كحرب روسيا وأوكرانيا. ولكن لا أدري كيف يمكن أن يتأثر سعر علبة جبنة تأتيني من بلد بعيد تماماً عن دائرة الحرب، ولا يتقاطع معها في أي دائرة، وعليّ أن أتقبل زيادة السعر وأحمّل روسيا أو أوكرانيا المسؤولية التي يجب أن أدفع ثمنها من جيبي، حتى لا يتأثر جيب التاجر؟
لا أفهم كثيراً في الاقتصاد وتشعباته المحلية والدولية، لكنني على الأقل أعرف أن هذا الاقتصاد لا ينبغي أن يكمل دورته الطبيعية على حساب المواطن بلا أي ذنب منه. وبالتالي، من حق هذا المواطن، إن عجز عن الاستعانة بأي حلول عمليةٍ ناجحة لكبح جماح الأسعار، أن يكبح جماح رغبته الشخصية، فيستغني عما يمكن الاستغناء عنه، ولو مؤقتاً، أو يستبدله بما يتوفّر في السوق بأسعار أقل.
لكن المشكلة في هذه الحملات أننا، نحن الشعوب الخليجية، غير معتادين عليها في ظل نمط معيشي استهلاكي مترَف، يفرض علينا، بمساندة الضغط الإعلاني والإعلامي الموجه، شكلاً موحّداً تقريباً من الحياة الاستهلاكية بأدوات نتشاركها أسماء وعلامات تجارية مع الجميع، بغض النظر عن المستوى المعيشي لأفراد هذا الجميع كلٍّ على حدة.
نحن، إذن، نفتقر إلى ثقافة المقاطعة، كما تعرفها الشعوب الأخرى، وهو سلوكٌ جديدٌ نسبياً علينا. وعلى ذلك يراهن التجار الجشعون، لأنهم يعرفون أن كثيرين منا لا يمكنهم الاستمرار طويلاً في مقاطعة ما اعتادوا عليه من مأكولاتٍ ومشروبات. وإذا كانت بعض حالات المقاطعة قد نجحت في السابق في هذا البلد أو ذاك، إلا أنه نجاحٌ نسبيٌّ، سرعان ما التفّ عليه التجار بطرق غير مباشرة لزيادة الأسعار مرة أخرى، بعد أن تراجعوا عنها تحت ضغط المقاطعة، فالمقاطعة تحتاج نفساً طويلاً لتنجح بشكل كامل، كما تحتاج تضافر جهود الجميع، لتشمل حتى غير المتضرّر من رفع الأسعار. أما إن تعرّضت لثغرات من هنا وهناك، فسرعان ما تنهار ويعود السعر إلى سابق عهده، بل وربما يستغلّ التاجر فشل المقاطعة، فيرفع السعر مجدّداً، انتشاء بانتصاره واستغلالاً لفشل المستهلك في مواجهته.
هذا ما ينبغي أن تركّز عليه حملات التوعية التي يجب أن تسبق أي حملة للمقاطعة وتوازيها أيضاً، بالتركيز على أن المقاطعة سلاح شعبي، ولن ننجح في استخدامه إن لم يقتنع الجمهور بفعاليته، بغضّ النظر عن رأي الحكومات فيه، فنحن نعيش في بلدانٍ تحكمها قوانين السوق الحرّة، وعلينا أن نجيّر هذه القوانين، قدر استطاعتنا، لصالحنا، بوصفنا مستهلكين، عندما تصمت الحكومة عن حمايتنا من جشع التجار وشركاتهم. كما أن الانخراط في سلوك مقاطعة السلع الاستهلاكية يبدو وسيلة تربوية ناجعة، لتعويد أبنائنا على الاستغناء عما لا يملكون ثمنه من كمالياتٍ أصبحوا ينظرون إليها، تحت الضغط الإعلاني والدعائي الخانق، على أنها من أساسيات الحياة، فلنقاطع إذن.. باعتبار المقاطعة، على الأقل، أضعف طرق الإيمان بحقنا في حياة كريمة.