سقط الأبد إلى الأبد
أخيراً، تخلصت سورية من حكم أقذر عصابةٍ يمكن أن تمرّ في التاريخ. مهما تحدّثنا عن ارتكابات أفرادها ومنظومتها، ومهما شاهدنا من حقائق تفغر الأفواه أمامها. هناك دائماً في تاريخها القذر ما هو أشدّ هولاً بكثيرٍ مما رأينا، وأظن أنه لن يطول الزمن قبل أن يقرّر أحد ما كشف كامل ملفّات هذا النظام وارتباطاته بكل مافيات العالم الأسود والمظلم. تحرّرت سورية أخيراً، وسقط هذا الجدار المهول الذي حوّلها طويلاً إلى سجنٍ متوحش بطبقاتٍ عديدة، لن يكون التخلّص منها سهلاً ويسيراً، وستمرّ سورية بطريق طويل ووعر، قبل أن يتم شفاؤها بالكامل.
لستُ من المتحمّسين لمن وصل اليوم إلى قيادتها، لا أستطيع نسيان مرجعياتهم ولا تاريخ بداياتهم في سورية. لا أحكي عن عقيدتهم، فلكل شخص مطلق الحرية في اعتناق ما يشاء من العقائد، شرط عدم فرضها على آخرين لا تناسبهم. ولكن هذا حصل من دون أن يستشار أحدٌ من السوريين في ذلك. وهو ربما ما يجب أن يكون الأساس في تنظيم الحياة السورية لاحقاً: أن يُستشار السوريون في كل ما يتعلق بشؤونهم، لكن ليس على طريقة البعث والاستفتاءات التي كانت تُقام تحت رعاية أمنية محكمة بنتائج محسومة سلفا، ولا على طريقة الشورى التي تناسب من هم في القيادة اليوم. وإنما عبر آلياتٍ ديمقراطية وصيغ حديثة تتناسب مع تطلعات السوريين بكل أطيافهم واتجاهاتهم وطبقاتهم وهوياتهم، وتتناسب مع ثورة الحرية والكرامة التي دفع ملايين السوريين أثماناً باهظة لها. كان مطلب السوريين منذ البداية الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، وهو ما ينبغي أن يبقى الشعار الدائم حتى إنجازه.
الشعوب هي من تصنع طغاتها. تتماهى مع جلاديها أيضاً، وهو ما يعرف بمتلازمة استوكهولم. هذا كان واضحا جداً في سورية، التعلق المرضي إلى درجة الموت فداء ظالم وفاسد هو متلازمة مرضية حولت سورية إلى بلد الموت حرفياً، وهو أيضاً ما يجعل المتماهين مع الزعيم الفائت يعاودون التماهي مع أي زعيمٍ قادمٍ بسرعة شديدة، فالفجوة التي يخلفها رحيله في أرواحهم تحتاج أن تمتلئ كي يكتمل توازنهم، هذه اضطرابات نفسية معقدة لكنها تفسّر لماذا يحوّل بعضهم الحاكم إلى طاغية. هو ما يفسر أيضا سرعة محاولات الالتصاق بقائد هيئة تحرير الشام وتعظيمه، واعتباره فاتحاً وزعيماً، وإلى آخر هذه الألقاب التي اعتادت شعوبنا على إطلاقها على الحكّام. لكن هذا، رغم سهولة فهمه، شديد الخطورة، ذلك أنه يؤسّس لاستبداد جديد ويؤسّس لحكم فردي يسهل تكريسه في الحالة السورية التي تسيطر عليها هيئةٌ تنتمي إلى أيديولوجية تميز نفسها عن العالمين أساسا، من دون أن تكون قد أنجزت أي شيء، فكيف وهي تبدو أنها المحرّرة لبلد مثل سورية من نظام مثل نظام الأسد؟
لم تنته الثورة، هذا ما يجب أن نعيه جميعاً نحن السوريين، الثورة الحقيقية بدأت الآن، وهو ما يستدعي عودة جماعية إلى سورية مهما كانت الظروف، عودة النخب السياسية والثقافية والفكرية، عودة الصناعيين والتجار ورجال الأعمال والمستثمرين، عودة الكوادر الثورية الشابة التي لعبت دوراً كبيراً في الضغط على المجتمع الدولي لإجباره على التخلي عن الأسد. علينا جميعا أن نعود إن كنا نخاف على سورية كما ندّعي. علينا أن نعقد موتمراً وطنياً في داخل سورية، أن تفتح الملفّات كلها، وأن تتحقّق العدالة الانتقالية لمحاكمة كل المجرمين لأي جهةٍ انتموا (لم تكن جبهة النصرة بريئة من الارتكابات بالمناسبة). لن يتحقق الأمان في سورية من دون عدالة انتقالية، هذا ما يجب الانتباه له جيداً، وإلا فستعود لتغرق في الدم. علينا أن نتفق على المبادئ التي سيحدّد بها الدستور السوري القادم، وعلى شكل الدولة وهويتها. سيقول بعضهم إن هذا كله سابق لأوانه، وإن البلد يحتاج زمناً ليتعافى. لكن هل الزمن في صالح سورية، وهي تنتقل من حكم البعث المستبد لتقع في سيطرة حركة أيديولوجية أخرى لن تقلّ استبداداً إذا ما طالت فترة بقائها في القيادة. يحتاج السوريون اليوم لصياغة عقد اجتماعي جديد لبناء دولة حديثة، مدنية أو علمانية، هذا متروكٌ للشعب لتحديده.