سر مشترك بين عدوين لدودين
نعلم أن السر يكون بين اثنين لا ثالث لهما، فإذا زاد العدد على ذلك شاع المخبوء، ولو بعد حين. ونعلم أيضاً أن الشأن الخاص، الجارح أو المؤلم، يظل قابعاً في دهاليز العوالم الشخصية، إلى أن يُدفن مع صاحبه في نهاية العمر، كما نعي كذلك أن هناك أسراراً أخرى تبقى محفوظةً بين الأزواج والأحباب وأرباب الحرف والسوابق وغيرهم، وينطبق الأمر ذاته على الشركاء والحلفاء والعملاء، وكل من يتعهد لنظيره أداء خدمة، أو تنفيذ خطوة، بموجب تعاقدٍ ما.
أما المستهجن، الخارج عن المألوف، العصي على الفهم، فأن يتوافق عدوان، ضمناً وبصمتٍ مطبق، على دفن سر خطير يخصّهما، وأن يتشاركا في التكتم عليه لتحقيق مصلحة مؤقتة، وغير متماثلة لكل منهما، وأن يواصلا معاً لعبة "لم سمعت لم رأيت" إلى أن يأتيك بالأخبار من لم تزوّد، تماماً على نحو ما جرى، عامين وأكثر، من معارك وقعت في أعالي البحار، وعلى أعتاب المضائق البحرية، بين إيران وإسرائيل، الدولتين اللتين تجاهلتا، كلٌّ لأسبابها، تلك الوقائع المثيرة، وعمدتا إلى التعتيم عليها حتى الأمس القريب.
ليس عسيراً على المرء تفكيك علّة تكتم إسرائيل على تلك الوقائع الجارية بعيدا عن الأنظار، انطلاقاً من سياسة الغموض البنّاء، لا سيما وأن الدولة العبرية هي المعتدية بالألف واللام، ولا عجب في أن تستمرئ الدولة المتحرّشة، بحكم نزعتها التكوينية، التنمّر على جوارها الجغرافي بالطول والعرض، طالما أنها تتقن لعبة القط والفار، غير أن من العسير حقاً هضم علة إذعان إيران لقواعد منطق الأشقياء، القائم بدوره على منطق الغلبة والاستقواء، خصوصا أن الجمهورية الإسلامية تُقدم نفسها دولة مرهوبة الجانب، لا تنام على ضيم، وسبق لها أن هدّدت بمحو إسرائيل عن الخارطة في غضون دقائق معدودات.
قبل نحو شهر، تناقلت الصحف الأميركية ووكالات الأنباء، وفق معلوماتٍ مسرّبة من دوائر استخبارية، نبأ تعرّض نحو 20 سفينة إيرانية، خلال العامين الفائتين، لهجمات إسرائيلية متفرّقة، بعضها في البحر الأبيض المتوسط وبعضها الآخر في البحر الأحمر وخليج عُمان، إلا أن طهران آثرت، ربما لشعورٍ بالحرج، تجاهل هذا التطور الجديد في المواجهة مع دولة الكيان البغيض، وعضّت على جرحها النازف بعض الوقت، إلى أن تمكّنت من استهداف سفينة تجارية إسرائيلية قبالة سواحل بحر عُمان، الأمر الذي هتك السر وأبانه للرأي العام.
غير أن ضرب إسرائيل قطعةً حربيةً إيرانية مرابطة قرب مضيق باب المندب، قبل نحو أسبوع، وتبنّيها شبه الرسمي هذه الواقعة، المتزامنة مع إعادة المفاوضات حول البرنامج النووي الإيراني في فيينا، كان بمثابة إعلان السر المدفون على الملأ، جهاراً نهاراً، أو قل إخراجه نهائياً من دائرة التكتم والغموض، الأمر الذي قد يفتح جبهة مضافة للمواجهة القائمة بين الطرفين على عدة جبهات، أوسعها في سورية وأضيقها في لبنان، ناهيك عن الحرب السيبرانية، وعن الحرب الضروس في مجال الاستخبارات ضد المفاعلات النووية، وعن اغتيال كبار علماء البرنامج الذي تعقد عليه طهران الرهان كل الرهان.
وأحسب أن التوافق الصامت بين الجانين على كتمان هذا السر الموجع لإيران ناجمٌ عن إدراك طهران المسبق فداحة الدخول في مواجهةٍ علنيةٍ ومفتوحة، وربما غير متكافئة مع الذئب الإسرائيلي الذي أدار معركة قاسية من جانب واحد، على جبهةٍ له فيها اليد العليا، وفي نطاقات تحت السيطرة، من دون تلقي أي تبعات، حيث كانت حصيلة هذه الحرب سفينة إسرائيلية واحدة، أو اثنتين على الأكثر، مقابل نحو عشرين قطعة إيرانية، الأمر الذي كان من شأن الإقرار به هكذا أن يقوّض صورة الجمهورية المجاهدة ضد الاستكبار، وأن يخصم المزيد من رصيدها الغاصّ بالمبالغات والتهويل عن مضائها الحربي.
وبعد انكشاف السر الذي دفنته إيران وإسرائيل معاً، كلّ لدوافعها الخاصة بها، يبدو أن نظام الملالي يقتدي بالمثل الشعبي "الغُلب مع الستيرة ولا الغُلب مع الفضيحة"، إلا أنه بعد أن بات السر مضغة في أفواه العامة، يتضح أن هناك من يخشى تجرّع كأس السم ثانية (ليس مع العراق هذه المرّة)، ونعني بذلك التورّط بمواجهةٍ مفتوحةٍ ومكلفة، مع هذا المتطاول على الجمهورية الإسلامية في البر والجو والبحر، وأحياناً في عُقر دارها، وربما لم تسقط من الذاكرة الإيرانية سابقة تدمير وإخراج بحرية الحرس الثوري من العمل، في أواخر الحرب مع العراق عام 1988، خلال نهار واحد، تحت ضرباتٍ أميركيةٍ مكثفة.