سردية التطبيع الليبية بثلاث نسخ افتراضية
لم تكن هناك ورقة مدوّنة أو حتى "لا ورقة" تؤسّس لسردية ما جرى التوصل إليه في اللقاء السري في روما، بين رجل الموساد السابق، إيلي كوهين، ووزيرة خارجية حكومة طرابلس نجلاء المنقوش، إلّا أنّ هناك تفاهمات شفوية كان مقدّراً لها أن تظلّ طيّ الكتمان، إلى أن يُجرى الاتفاق على رزمةٍ تطبيعية، يحقّق فيها الجانب الإسرائيلي خرقاً بالغ التواضع في جدار الرفض العربي لدولة الاحتلال، خرقاً لا قيمة له في حدّ ذاته، كونه سيُبرم مع دولة مليشيات ممزقة بين برلمانين وحكومتين فاشلتين، فيما لا ينال الجانب الليبي، في المقابل، سوى قبض الريح، مع رهانٍ بائسٍ على تحسّن فرص حكومة عبد الحميد الدبيبة في البقاء بسدّة الحكم، نتيجة تجيير هذا التنازل المجاني لحساب واشنطن، المنهمكة في توسيع رقعة التطبيع "الإبراهيمي" مع العواصم العربية.
لم تجرِ الرياح بما تشتهيه سفن الأطراف الثلاثة المنخرطة في لعبة طاقية الإخفاء، فقد بادر القادم لتوّه من عالم الجاسوسية والاغتيالات إلى فضح الطابق من دون سابق إنذار، عندما تبجّح، علناً وبخفّة، أنه حقّق، مع نجلاء المنقوش، اتفاقاً "تاريخياً" له ما بعده في النطاق الأشمل الممتدّ من الخليج إلى المحيط، الأمر الذي خرّب كل ما جرى بناؤه بتؤدة وتكتّم شديد، وقلب الفرصة السانحة بعد لأي وصبرٍ مديد، إلى أزمةٍ عاصفة، أطاحت السيدة المأمورة وكادت تطحن عظامها، لولا أن سيّدها سارع إلى تهريب ضحيته تحت جنح الظلام، قبل أن يتنصّل من فعلتها الآثمة، ويُشهر على الملأ الغاضب من حوله توبته الخالصة من ارتكاب هذه الرذيلة السياسية بمعايير بلد عمر المختار.
يبقى أنّ هذا الصعود المفاجئ، والانهيار السريع، لأسهم بورصة التطبيع مع مجرّد دولة على الورق، كان درساً بليغاً لكل الأطراف المخاطَبة بهذا المسار، حيث تجلّت هذه الواقعة عن عدّة مفارقات، منها أن حدثاً موضعياً صغيراً كان له دويٌّ أشدُّ من الحدث نفسه، والأهم أن التداعيات المترتّبة على فشله أتت أوسع مدىً من حدود الجغرافية الليبية ذاتها. وفوق ذلك، جاءت ارتدادات انكشاف الفضيحة في طرابلس الغرب كبيرة حقاً، إلا أن صداها كان أكبر بكثير في عواصم عربية تبذل واشنطن جهداً جهيداً، إن لم نقل ضغوطاً، لجرّ العرب إلى المصيدة، ومن ثمّ تحقيق الاختراق الكبير، الذي لا يزال بعيد المنال عن أيدي إدارة أميركية لا تملك البضاعة ولا القدرة على تسليمها، حتى وإن تم دفع الثمن كاملاً، في ظل حكومة اليمين الصهيوني الفاشي الحالية.
بكلام آخر، نحن أمام ثلاث نسخٍ لورقة امتحان تطبيعي لم يكتمل، وقد لا يكتمل في المدى المنظور. الأولى منها حاضرة بقوة في مشهد ليبي غاضب غضباً شعبياً عارماً، تحت وطأة حسٍّ ثقيلٍ بالخيانة، حيث أخذ المتهم الأول، وهو رئيس حكومة الوحدة الوطنية، يبدي الندم ويطلب الصفح والمغفرة من الجميع، حتى إنه ذهب إلى السفارة الفلسطينية ووشّح كتفيه بالكوفية، فيما راح خصومُه في شرق ليبيا وغربها، بمن فيهم رئيسا مجلسي النواب والدولة، يتبارون في رفض الفعلة السوداء، وهم يتوشّحون أيضاً بالكوفية نفسها، في مشهدٍ لم نر نظيراً له في السودان، مثلاً، يوم خطا عبد الفتاح البرهان أولى خطواته العلنية على هذا الدرب الزلق، ولم يحدُث مثيلٌ له في عواصم أخرى.
النسخة الثانية من ورقة الامتحان هذه كانت باللغة العبرية، حيث تقاذف القوم في دولة الاحتلال الاتهامات بالفشل، وتبادلوا بعضهم البعض وزر من يتحمّل مسؤولية السقوط التام في الامتحان الليبي، سيما وأنهم يدركون مسبقاً أن الفشل على خشبة هذا المسرح الصغير يفتح باباً أوسع أمام فشلٍ مدوٍ على المسرح الكبير، المستهدف من وراء كل "اللتّ والعجن" الأميركي المتواصل سرّاً وعلانية، منذ عهد دونالد ترامب إلى زمن جو بايدن، الرامي إلى اصطياد السمكة الكبيرة في بلاد مبادرة السلام العربية، حيث الرمزية الدينية الباذخة والمكانة السياسية المركزية في العالميْن العربي والإسلامي.
أما النسخة الثالثة فكانت باللغة الإنكليزية، حيث جنّ جنون الإدارة الأميركية المتهافتة على تحقيق إنجاز دبلوماسي عشية الانتخابات الرئاسية الوشيكة، وهي في الواقع عرّاب هذه اللعبة العصية، التي انهارت قواعدها دفعة واحدة، بعد تكشّف ثمنها الباهظ للعواصم المخاطبة بالتطبيع الإبراهيمي، واتّضح مدى شدّة الرفض الكامن في وجدان الشعوب العربية، لكلّ تنازل مجّاني مع عدوّ متغطرس، ينعت الواحد فيه الآخر من طينته "يا عربي" إذا أراد تحقيره.