سورية الجديدة بين عاصمتَين ساخطتَين
بعد مرور شهر على سقوط حكم آل الأسد بصورة مُهينة، وفرار الطاغية بجلده من مصير يحاكي مصير عمّه معمّر القذّافي، انجلت مواقف سائر العواصم المخاطبة بالحدث المفصلي في سورية الجديدة، بما في ذلك العواصم العربية، كما انجلت معظم مكوّنات الصورة الجديدة لعاصمة الأمويين، سيّما مع تواصل الحجيج الدبلوماسي الى الشام، بكثافة فوق اعتيادية، الأمر الذي رسم مشهداً فاق أشدّ التوقّعات تفاؤلاً بغدٍ سوريٍّ واعدٍ، خاصّة أن هذا المشهد يشي بالدعم والإسناد والرغبة في القطع مع ماضٍ مضى إلى غير رجعة. غير أن بعض العواصم والقوى السياسية في هذا الإقليم، المسكون بالمفاجآت والحروب والمتغيّرات السريعة، راحت تكظم الغيظ بصعوبة، وتتجلّد على مغص البطن بشقّ الأنفس، جرّاء السقوط السريع لمستبدّ يشبهها بعض الشيء، وهروب ديكتاتور فيه شيءٌ منها، ولو بأقلّ القليل، وأخذت تراوغ وتتكتّم على مواقفها السلبية إزاء التحوّل الدراماتيكي في سُرّة جغرافيا المشرق العربي، تحسّباً لشبهة التماثل مع جمهورية المقابر الجماعية، ودرءاً لتهمة التعاطف مع "عزرائيل" سجن صيدنايا، رمز الإعدامات بالجملة، والتعذيب حتى الموت.
لسنا اليوم بصدد التوقّف كثيراً عند مواقف العواصم المراوغة إزاء الحدث السوري الكبير، وإنما تكثيف الضوء على موقفَي عاصمتَين كبيرتَين ساخطتَين (ليست موسكو الغاضبة واحدة منهما) على القيادة الجديدة في البلد الذي كان اسمه "سورية الأسد"، إذ أبدت كلّ واحدة من هاتَين العاصمتَين، كل منهما لأسباب تخصّها وحدها، سخطاً طافحاً بالوجع (السخط أشدّ من الغضب) ومتفاوت الحدّة، وعلنياً بصورة مدوّية، حيال التطوّر الجيوسياسي الجاري فصولاً بعد في دمشق الشام.
الأولى طهران الملسوعة بالنار الحامية، المصدومة بجملة طويلة من خسارات ثقيلة، لا تعوّض ولا تُرمّم ولا تُستعاد، جرّاء انهيار مشروعها الإمبراطوري، أو قل مغامرتها الطائشة، وتبدّد كثير من المال (نحو 50 مليار دولار) والغزير من الدماء، واضمحلال دورها الإقليمي، وانحسار نفوذها في العالم العربي، فضلاً عن خسارة الاستثمارات والرهانات وضعف دور الوكلاء، وانكسار خطّ الدفاع الأول عن الجمهورية الإسلامية من دمشق وبيروت، وربّما بغداد.
الثانية، وهي بيت القصيد في هذه العجالة، قاهرة المُعزّ، التي آثرت دون غيرها من العواصم العربية التغميس خارج الصحن، اذ تلعثمت أوّل الأمر، تذرّعت بالنوافل وقالت إنها على وجل من سابقة وصول الإسلام السياسي غلى سُدَّة الحكم في الشام، وأبدت ما في وسعها من تحفّظات وشكوك واعتراضات يعوزها التواضع، حتى إنها منعت رفع علم الثورة، وهو العلم السوري زمن ما قبل عهد الأسد، على مبنى السفارة السورية في العاصمة الكبيرة، وقيّدت سفر السوريين إليها، وامتنعت كذلك عن إبداء التأييد أو المجاملة، وأحجمت عن الانضمام إلى ركب العرب، الذين تنفّسوا الصعداء بغروب هلال آيات الله عن سمائهم.
وأحسب أن القاهرة المصابة بحساسية مفرطة للغاية، وهواجس مبالغ بها حيال عودة جماعة الإخوان المسلمين إلى المشهد العام في أيّ مكان، كانت على قلق (كأن الريح من تحتها) وهي تقرأ المشهد السوري بارتياب وحذر، وتقارب تفاصيله الفرعية بتطيّر شديد، سيّما بعد دخول تركيا على الخطّ، ورجحان كفّتها في الميزان السوري، وتيقّنهان في الوقت نفسه، من حقيقة أن لا نفوذَ لها ولا حدودَ، ولا "خيلَ عندك تهديها ولا مال"، ولا أدوات تؤثّر بها في مسار بدأ يكرّس انتصار السوريين على الجلّاد، ويرسي حقيقةً ساطعةً، مفادها أن دولة الترهيب والإخضاع والإسكات ومصادرة الحرّيات، دولة زائلة لا محالة، مهما طال المطال.
يعزّ على المرء وهو يتابع موقف القاهرة المُرتبِك (حتى لا نقول ما هو أقسى) حيال سورية ما بعد سقوط بشّار الأسد، أن يرى الدولة العربية الأكبر، ذات الدور التاريخي المجيد في حاضر العرب وماضيهم التليد، وهي تنسحب إلى داخل قوقعتها، تُصغِّر مكانتها بنفسها، تكابر وتتحدّث عن دورها الإقليمي الراجح، وتفشل في الوقت نفسه باجتراح سياسة كفؤة، حصيفة وفعّالة، إزاء سورية الجديدة، وأن تنتهج (مع الأسف!) النهج المخيّب للآمال ذاته، الغاصّ بالإخفاقات، النهج الذي سبق أن اتبعته مصر العظيمة في معالجاتها العقيمة لسائر قضاياها المباشرة وتحدّياتها الخارجية القائمة في جوارها، بدءاً من ليبيا إلى السودان إلى سدّ النهضة مع إثيوبيا، وليس نهايةً في محور فيلادلفي (صلاح الدين) مع إسرائيل، ومعبر رفح على الحدود مع قطاع غزّة.