ساعة في ملجأ العامرية

20 فبراير 2015

صور بعض ضحايا الجريمة في ملجأ العامرية (2 مايو/1997/Getty)

+ الخط -

ربما كان عادياً أن تنسى الفضائيات والصحافات العربية، يوم الجمعة الماضي، اكتمال 24 عاماً على مذبحة ملجأ العامرية التي اقترفتها الولايات المتحدة. ليس فقط لأن نجاحاً ظاهراً يتحقق لاعتداء الاحتلال الأميركي في العراق على الذاكرة العربية، بل أيضاً، لأنه، ربما (أيضاً) من البطر بمكان أن نفطن لتلك المقتلة المهولة، فيما جرائم التمويت تنشط، بهمّةٍ ودأبٍ كثيريْن، في غير مطرح عربي، وبأصنافٍ متنوعة، حيث البراميل المتفجرة والسيارات المفخخة والمديات والسكاكين والحرق والتعذيب والتنكيل، وحيث إسرائيل في فلسطين ونظام الأسد في سورية والزرقاويون والداعشيون والطائفيون والمذهبيون والمليشياويون في غير مكان. الأرشيف العربي مثقل، منذ مقتلة ملجأ العامرية، بالفظائع، فإذا استدعيتَ قانا والفاخورة والشجاعية والغوطتين والحولة ورابعة ودارفور والفلوجة ودوما، فإن دماً عربياً غزيراً آخر، ساح في ويلات أخرى، سيعتب على إهمالك له. ولولا خبر عارض، قليل السطور، صادفته في جريدة سيّارة، عن ذكرى تلك الجريمة الأميركية، لما قفزت قدّامي صور ثاويةٌ في ذاكرتي لعديدين من شهداء الملجأ المنكوب، منذ جولتي فيه، ذات ظهيرة قبل عشرين عاماً.
قنبلتان حارقتان، زنة كل منهما ألفا رطل، قذفت بهما طائرتان حربيتان أميركيتان على الملجأ، في فجر ذلك اليوم، في غضون عملية "الصدمة والرعب". كان الملجأ مبنياً في حي العامرية في بغداد بكيفيةٍ تحمي من فيه تماماً، لاذت إليه، في تلك الليلة الشنيعة، أسر عراقية كثيرة وبعض العرب (بينهم مصريون وفلسطينيون)، ثم صارت الفاجعة، مع القنبلة الأولى التي سدّت أبواب الملجأ، وجاءت الثانية لتحرق 216 امرأة و52 رضيعاً من بين 408 أشخاص قضوا في الجريمة، بمسؤولية وزير الدفاع ورئيس الأركان الأميركييْن، وقتها، ديك تشيني وكولن باول. تسعة من الشهداء كانوا أبناء أم غيداء وزوجها وأقاربها، العراقية التي شاء القدر أن تكون ساعة الجريمة خارج الملجأ، فنجت، لتقيم لاحقاً في غرفةٍ قربه، وتشرح لزواره ما صار، وتظلَّ شاهدةً في المكان، أمينةً على الذاكرة، وحاميةً أسماء القتلى من الضياع، ما أمكن.
ماذا فعلت تصاريف الزمن بأم غيداء، ما أخبارُها، وقد احتل العراق، وقرأت أن الملجأ تم نهبه وتخريبه، بعد أن كانت السلطات العراقية السابقة قد جعلته متحفاً خاصاً. تَرى على جدرانه، الحديدية الإسمنتية، صور كثيرين من القتلى، وأسماءهم، ومعلومات عنهم. شاهدتُ الحفرة التي أحدثتها القنبلة الثانية، وكذا الفجوة المهولة في سقف الملجأ. بحلقتُ في صور المغدورين. وفي الأثناء، طافت زوبعة من أسئلةٍ في خاطري، رأيت بقايا جلود ميتين في جريمة الحرق تلك على حائط الملجأ، وعلى قضبانٍ وأسلاكٍ فيه. قالت لي أم غيداء، أو خنساء العراق على ما لقّبت، إن 314 جثةً أحرقت، وقرأت أن جثثاً أخرى صارت غباراً. اغتيلوا ألف مرة وأكثر، لمّا تواطأ الجميع على رميهم في النسيان، وكان بديعاً من عراقيين صنعوا أفلاماً عن المأساة، ومن الزميل عباس أرناؤوط إنجازه مادة تلفزيونية توثيقية عنها، ومن الموسيقار نصير شمة إبداعه مقطوعة موسيقية لافتة.
كان فضولٌ، لدى كثيرين من زوار العراق، يأخذهم إلى الملجأ الذي لم يعد ملجأً، والذي كذب الأميركيون لمّا قالوا إنه كان مخبأ معدات عسكرية لصدام حسين، وموقعاً للجيش العراقي بين المدنيين في حي العامرية. لم يعد في وسع محبي العراق أن يزوروه، ولا في مقدورهم أن يمرّوا على أم غيداء، ويكتبوا شيئاً عن أسى جارح يغشاهم هناك، في دفترٍ لدى أم غيداء. أتذكّر أنني كتبت فيه بعض السطور العجولة. وأتذكّر مشواري إلى الملجأ، وتجوالي ساعة فيه. شعرت فيها بأنني ضيفٌ على الضحايا، وأشعر، الآن، بأنهم يفتشون عن مطرح لهم في تفاصيل حفلة القتل العربية المديدة.


 

 

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.