سارا كوبلاند .. أو صوتنا الذي لا يصل

24 اغسطس 2021

صورة سارة كوبلاند وابنها في صفحتها في "تويتر"

+ الخط -

في خاتمة فيلم "ذا لاست كينغ أوف سكوتلاند" (2006، إخراج كيفن ماكدونالد، بطولة فوريست ويتاكير، وجيمس مكافوي)، يقول الطبيب الأوغندي للطبيب البريطاني غاريغان (مكافوي)، وهو ينقذه من الموت تعذيباً، بأمر من الرئيس عيدي أمين (ويتاكير)، ويساعده على الفرار إلى الخارج، عندما يسأله غاريغان "لماذا تفعل ذلك؟"، يجيب: "بصراحة، لا أعرف. تستحق الموت، لكن إذا متّ لن تتمكّن من فعل شيء، أما إذا كنت حياً فستكون قادراً على إصلاح نفسك". يفسّر: "لقد سئمت من الكراهية، دكتور غاريغان، وهذا البلد غارق فيها، ونستحقّ أفضل من ذلك. ارجع إلى بلادك، وقل للعالم الحقيقة عن أمين .. سيصدّقونك لأنّك أبيض".
بعيداً عن القصة التي بني عليها الفيلم، ومدى مصداقية حقائقها التاريخية، فإنّ في العبارة "سيصدّقونك لأنّك أبيض" كثيرا من الحقيقة، خصوصاً في منظارنا نحن، أهل جنوب الكرة الأرضية، ممن يطلقون علينا أبناء "العالم الثالث"، ويطلقون على بلادنا لقب "النامية". ليس الأمر أنّنا كاذبون، وليس الأمر أنّ الغرب، ومعه المنظومات الكاملة التي يجرّها خلفه إعلامياً وأكاديمياً وسياسياً وحقوقياً واقتصادياً، ينتظر منا كلمة صدق. لكن، ببساطة لأنّ الأجندات تتطلب ترويجا للصدق أحياناً ولغيره في أحيان كثيرة. أما القتل الذي نتعرّض له، ومعه الإصابات والقمع والتنكيل والتعذيب والاعتقال والإخفاء القسري والإبعاد والابتزاز والتهجير، فله مواسمه التي توافق تلك الأجندات، فترتفع حدّة الكلمات، وتمتلئ صفحات الجرائد والمواقع ونشرات الأخبار بها.

في انفجار، أو تفجير، مرفأ بيروت، قصص مؤلمة كثيرة، لكنّ قصص الأطفال الضحايا من بينها هي الأشد إيلاماً

لعلّ هذا الأمر فهمه مؤثّرون كثيرون العالم، وغالباً هم من بلدان "العالم الأول"، ذاك المقابل لعالمنا، والذين ينحاز بعضهم، لحسن الحظ، إلى حقوق الإنسان، تحديداً أصحاب النيات الحسنة من هؤلاء. لكن، هل يكفي هذا للوصول إلى العدالة في جرائم كبرى، مقصودةً كانت أم عن إهمال، في حال كان الصوت "الأبيض" ذاك متوفراً؟
في انفجار، أو تفجير، مرفأ بيروت، قصص مؤلمة كثيرة، لكنّ قصص الأطفال الضحايا من بينها هي الأشد إيلاماً. إحداها عن الطفل الأسترالي إسحق أوهلرز (عامين) أصغر ضحايا الانفجار، الذي كان قبل اليوم الرهيب في 4 أغسطس/ آب 2020، يعيش مع والديه.
كتبت والدته، الناجية من الانفجار، سارا كوبلاند، وهي موظفة في الأمم المتحدة، الكثير عن ذلك اليوم المؤلم الذي ذهب فيه ابنها ضحية، بعيداً جداً عن بلادها التي كان من المفترض أن يعودوا إليها خلال أسابيع قليلة، للقاء العائلة الكبيرة، وهي التي انتقلت إلى بيروت قبل عامين مع عائلتها الصغيرة، تبعاً لتغيير مكان عملها من نيويورك. وفي أعقاب خسارتها الكبيرة تلك، نشطت، عبر وسائل التواصل، للتذكير بقضيتها وقضية كثيرين من أهالي ضحايا المرفأ. وفي الذكرى الأولى على الانفجار، أجريت معها مقابلات، كما كتبت شهادتها في المواقع التابعة للأمم المتحدة، وفيها قالت: "نحن الأهل، أمرٌ واحد يمكننا فعله بعد لطفلنا إسحق، وهو العمل للحفاظ على ذكراه حيّة، والسعي إلى تحقيق العدالة باسمه ونيابة عنه. عدم سعينا إلى تحقيق العدالة معناه أنّنا نقتله مرتين، وأنّ ما حدث له لا يهمنا، وأنّ حياته ليست لها قيمة. إسحق استحقّ فرصة في هذه الحياة. هي فرصة سُلبت منه ذاك الغروب البشع. وهذا لن يتحقّق إلّا من خلال بعثة لتقصي الحقائق مستقلة ومحايدة. ونحن على يقين أنّه حين تتضافر جهود أعضاء المجتمع الدولي، يمكن تحقيق العدالة والمساءلة. لذا، ندعو المجتمع الدولي إلى الاعتراف بأنّ الأطفال الذين خسروا حياتهم يستحقون العدالة، وأن ينهض المجتمع الدولي لتولي القضية نيابة عنهم".

تكلمي، يا سارا، وإنْ باسم طفلك الضحية إسحق وحده، وباسم ألمكِ وحدكِ، لعلّها كلماتك هي ما سيحقق لنا جميعاً العدالة

وبينما لا يسمع أحد أصوات أهالي الضحايا، والمصابين، والمتضرّرين في انفجار المرفأ، غالباً، وإذا سُمع صوتهم هُمّش واستغل سياسياً، أو في أحسن الأحوال، جُعلت قضيتهم بأكملها مجرّد طريق لاستفادة كثيرين؛ من الإعلام والمنظمات والجمعيات والشركات والأحزاب، من آلامهم وأحزانهم وذكرياتهم المرّة، وبينما من تراث لبنان، منذ نشأته، عدم المساءلة والمحاسبة وعدم الوصول إلى العدالة في الغالبية العظمى من قضاياه، وإذا وصلت قضيةٌ إلى خواتيمها كانت عدالةً مجتزأةً بخاتمة منقوصة، فإنّ أصواتا كصوت سارا كوبلاند هي ما يُعقد الرهان عليها. هذه الأصوات هي المنبّه الذي يفترض أن يوقظ المجتمع الدولي تحديداً .. ونعم، لأنّها، وابنها الضحية، بالذات من بلد يحترم مواطنيه، ويحترم حقّهم في الحياة والعدالة، ولأنّها موظفة في الأمم المتحدة التي ترعى تلك الحقوق في العالم. ولأنّها، ببساطة، إن تكلمت عن معاناتها ستكون كلماتها مسموعة.
تكلمي، يا سارا، وإنْ باسم طفلك الضحية إسحق وحده، وباسم ألمكِ وحدكِ، لعلّها كلماتك هي ما سيحقق لنا جميعاً العدالة في نهاية المطاف.

F79ED122-582A-49B8-AE82-4B38F780EFB4
عصام سحمراني
صحافي لبناني، سكرتير تحرير مساعد في الصحيفة الورقية لموقع "العربي الجديد".