سؤال النهوض وإشكالية الصياغة
"لا مراء أن خلخلة هذا التساؤل النهضوي وإعادة صياغته من جديد، بغية تأسيس سؤال نقدي لا يتضح إلا من خلال طودين شامخين: الأول شقّ طريق الحفر في التراث والتنقيب فيه من أجل صياغة السؤال صياغة قوية متينة تسبر الأغوار وتبحث في كنهه وتعيد الحفر في السؤال ثم الولوج إلى الإشكال بغية تصور قراءة متميزة فريدة"... يقول الباحث الجزائري رحموني عبد الكريم في افتتاح مقالة له "الفكر العربي المعاصر ... مقاربة تأويلية لسؤال النهضة" (موقع "مؤمنون بلا حدود"). وكان السؤال، والذي اعتمده كثيرون ممن اهتمّوا بالمسألة النهضوية، يشير إلى العنوان الذي حمل كتاب شكيب أرسلان "لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم" هذا العنوان في حقيقة الأمر وفي إطار منهجية من المهمّ اعتمادها التي تتعلّق بفحص السؤال في ذاته وتأمل صياغته في المبنى والمعنى والمغزى؛ وقد مثّل هذا السؤال الذي حمله عنوان الكتاب إشكالية وتساؤلا جوهريا في غاية الأهمية من الناحيتين العلمية والمعرفية.
وإذ يرجع ظهور كتاب شكيب أرسلان إلى بداية الثلاثينيات من القرن الماضي، أي قبيل نهاية حركة الفكر العربي في عصر النهضة داخل الفضاء العربي – الإسلامي؛ فإن (العنوان الإشكال) بقي بريقه ساطعا وجذابا ومهما. وعليه، يمكن طرحه اليوم، وبعد مرور قرابة عشريّتين من القرن الواحد والعشرين، كما يمكن أن نعود إليه وبكل إلحاح وبإعادة التفكير والقراءة؛ والسبب أن الوضع العربي – الإسلامي، وعلى ما هو عليه، يتطلب التفكير والبحث والدراسة أكثر من أي وقت مضى، وبكل عمق، في الأسباب الجوهرية التي جعلت العرب والمسلمين في تأخّر، وجعلت الغرب وأوروبا في تقدّم؛ على ما يشير الهواري بركة في "لماذا تأخّر المسلمون؟ ولماذا تقدّم غيرهم؟: قراءة من منظور مختلف" (مجلّة "العلوم الإنسانية"، المجلد 9، العدد الثاني، ديسمبر/ كانون الأول 2020).
وفي هذا المقام، نشير إلى هذا السؤال الذي اعتمده أرسلان، وأعيد طبع الكتاب أكثر من مرّة. وفي سياق اشتباك كاتب هذه المقالة مع شبكة الإنترنت، وعلى واحد من أشهر محرّكات البحث، في سؤال النهضة والنهوض؛ وجدتُ ما لا يقل عن 80% من تلك المقالات والمساهمات قد اعتمدت سؤال أرسلان باعتباره سؤالا للنهضة والنهوض. ومع ملاحظة السؤال في بنية كلماته؛ السؤال يفتتح بأداة الاستفهام "لماذا"؛ وهي تسأل عن الأسباب؛ والتساؤل عن الأسباب التي تشير وتفسر ظاهرة ما يعدّ مشروعا؛ والذي يشير إلى علم الأسباب في مسألة النهوض والمعوقة له؛ إلا أن السؤال تضمّن ثنائية "التقدّم" و"التأخّر" وهي ثنائية ليست بريئة من التحيّزات ويحمل ثغرات؛ شاعت تلك الثنائية بعد الاحتكاك بالغرب الذي مثلت فيه الحملة الفرنسية على مصر مفصلا فيه؛ وحمل السؤال، في الوقت نفسه، ثنائية أخرى "المسلمون" و"الغير" غالبا ما عبّر عن الغرب وحضارته بالغير؛ وظلّ السؤال مسكونا بالغرب الغالب بحضارته ونموذجه في التقدم.
أصل السؤال "لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم" تحرّك نحو انحيازات أولية؛ وتوجّهات مسبقة تحكمها ثنائية "التقدّم" و"التأخر"؛ وهو ما حمل مداخل تحيّز في طرح السؤال وصياغته
عطفا على ما سبق، يتعلق سؤال النهوض أو النهضة بجملة من التنبيهات المنهجية: أولها، أن سؤال النهوض الذي نفضّل صياغته على هذا النحو؛ وذلك خروجا من أسر مفهوم النهضة الذي أصابته حمولة الالتباس الناشئ عن احتكار الحضارة الغربية ذلك المفهوم.
ثانيها، سؤال النهوض وفق تصوّرنا الأولي سؤال عملياتي وليس أيديولوجيا؛ مع اعترافنا أن السؤال لا بد أن يقترن بأسئلة أخرى؛ ذلك أن تسييس هذا السؤال أدّى بنا إلى حالة مؤدلجة ومسيسة فرضت علينا طوقا من الاستقطاب والانخراط فيه؛ اقتران السؤال لماذا؟ بالسؤال كيف؟ قد يكون طريق يُخرجنا من دائرة التراشق الجهنمية.
ثالثها، أن سؤال النهوض يحتاج بالضرورة إلى الانفكاك من الأسر المتعلق بالحضارة الغربية الغالبة؛ نعم إن أصل السؤال "لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم" تحرّك نحو انحيازات أولية؛ وتوجّهات مسبقة تحكمها ثنائية "التقدّم" و"التأخر"؛ وهو ما حمل مداخل تحيّز في طرح السؤال وصياغته.
رابعها، إن محاولة رصد ما يُسمى الحقل الدلالي لكلمة النهضة والنهوض يجب أن نلحظ مآلات التعدّد فيه؛ والذي قد لا يعدّ مؤشّرا إلى الإثراء؛ وربما قد يشير هذا التنوع في الحقل الدلالي؛ وشبكة المفاهيم؛ تبصّر هذا أمر في غاية الأهمية والخطورة؛ في ما يتعلق بإعادة طرح السؤال وفق رؤية علمية ومنهجية تتسم بأربعة أمور:
أولا، تحديد عالم المفاهيم وتعيينها والبحث في أصولها وعمليات تنسيبها الثقافي والحضاري؛ والتعرف إلى سياقات المفهوم ضمن أصول الفهم والتعامل الحضاري؛ حيث لا يمكننا التعامل مع عالم المفاهيم جزافا وكأنها معطيات؛ وما لم نتعرف إليها ضمن سيرتها المعرفية؛ وسياقاتها الحضارية؛ من غير ذلك سيؤدي ذلك ومنذ البداية إلى حال التنازع حول السؤال؛ لا الانطلاق للإجابة عليه؛ إجابة واعية مبصرة.
يجب أن يُطرح السؤال نقياً محايداً؛ سؤال النهضة والنهوض؛ ولا ينزلق إلى التحوير الذي قد يُفضي إلى تفخيخ السؤال أو حمولة سلبية قد تشير إلى تحيّزات أو أحكام مسبقة
ثانيا، تحديد عالم المفاهيم لا بد أن يستصحب مداخل منهاجية تتسم بالوعي المنهجي؛ ولياقة منهاجية تعتمد مبدأي الصحة والصلاحية؛ أهم تلك المداخل؛ المنهاجية المقارنة بحقها ومستحقها؛ تستوعب مستويات المقارنة المختلفة؛ داخلية كانت أم خارجية؛ فكرية أو نظرية كانت أم حركية عملية؛ كلية أم جزئية؛ وكذا المنهاجية النقدية والتي تحرص على بيان كل ما يتعلق من اكتشاف الأخطاء التي قد تتسرّب إلى صياغة السؤال؛ صياغة وبنية؛ معنىً ومغزى، وإلا سنظل نراوح في مكاننا في السؤال؛ حتى ونحن نقدّم إجابات هنا وهناك. غالبا والحال هذه ما ستكون تلك الإجابات انفعالية أو افتعالية؛ إغفالية أو اختزالية؛ سطحية أو مُبسّطة.
ثالثا، في هذا المقام، قد لا تكون صياغة السؤال في صيغته المحوَرة (لماذا تأخّر المسلمون وتقدّم غيرهم؟) مؤدّية إلى تقديم إجابات واعية ورشيدة؛ علمية ومنهجية؛ بل ستقدّم مادة لإدارة سجال معرفيّ وفكريّ، وهو ما أشار اليه برهان غليون في كتابه القيم "اغتيال العقل"؛ هذا الاغتيال الذي يتخذ أشكالا عدة، أهمها غلبة العقلية الدفاعية، والتي قد يغطيها خطابٌ أيديولوجي، غالبا ما يكون تبريريا؛ فيمثل ذلك تراجعا فكريا وحضاريا إلى مواقع الفكر الدفاعي الذي يعد إهدارا للطاقات الفكرية والمعرفية ومراوحة في المكان كما أشرنا آنفا؛ لا يغادر نقطة البدء؛ والانطلاق إلى إجابة حقيقية تتسم بالوضوح الكامل؛ والانعتاق من ربقة السؤال المتحيّز والخروج إلى السؤال الواعي المتميز.
في محاولة رصد ما يُسمّى الحقل الدلالي لكلمة النهضة والنهوض؛ يجب أن نلحظ مآلات التعدّد فيه؛ والذي قد لا يعدّ مؤشّراً إلى الإثراء
رابعا، السؤال وشبكة الأسئلة ضمن المعالجة المنظومية لسؤال النهوض أو أسئلته؛ هذه المعالجة غالبا ما تقدّم ضمن الرؤية المنهجية السابق الإشارة إليها؛ المقارنة والمداخل النقدية؛ وتحديد المفاهيم وتنسيبها؛ وسيرة الأفكار وتنسيبها؛ ذلك أن هناك نوعين من الأسئلة، النابعة والتابعة. ويجعلنا هذا التمييز نقدّم إجابات واستجابات واعية وفق هذا المعيار؛ ومن قبل نقدّم فحصا للأسئلة التي تنهال علينا بمناسبة سؤال النهوض المحوري: هل نطرح أسئلتنا؛ أم أسئلة غيرنا؟ هل نطرح أسئلة تخصّنا أم أسئلة يفرضها علينا صاحب الغلبة الحضارية وأتباعه؟ ... ستحدّد عملية التصنيف لتلك الأسئلة على معيار النابع والتابع منا البوصلة، ويعين الوجهة؛ وهو أمر يربط ذلك بأسئلة في المرجعية والهوية.
المحصلة النهائية التي تقوم على تقييم سؤال النهضة والنهوض وتقويمه؛ وتقدير السؤال في سياق يساعد على الإجابة البصيرة والاستجابة الواعية؛ وتقدير سؤال النهوض في سياق تنوّعاته وصياغاته المختلفة التي وقعت بين التحديد النابع والتعريف التابع؛ وهو أمرٌ يجعل الوقوف على المفهوم "النهضة والنهوض" أساسيا وبديهيا، وهو ما سنتعرّض له لاحقا. ولكن صياغة السؤال مسألة قبلية؛ حتى لا يكون السؤال محاصراً أو محصورا. أما كونه محاصرا فكان بين أفقي الانحطاط الراهن والتقدّم التابع؛ ومن ثم قد يمتدّ هذا السؤال إلى أسئلة أخرى؛ سؤال العلاقة مع الغرب الغالب؛ سؤال الحداثة ومتعلقاته؛ سؤال التخلف والتقدّم؛ سؤال المعاصرة الذي طرحه المستشار طارق البشري ضمن مشروعه "المسألة الإسلامية المعاصرة"، سؤال الهوية والمرجعية. وضمن مقترحنا الأوليّ؛ يجب أن يُطرح السؤال نقيا محايدا؛ سؤال النهضة والنهوض؛ ولا ينزلق إلى التحوير الذي قد يُفضي إلى تفخيخ السؤال أو حمولة سلبية قد تشير إلى تحيزات أو أحكام مسبقة ولا يزال الأمر في حاجة لمزيد من الفحص والدرس.