المركزية الغربية ومفاهيم معتمدة في سؤال النهوض
المركزية الغربية هي اعتبار الغرب نفسه، أو اعتبار الحضارة الغربية (Western Centrism) نفسها التي بدأت بواكيرها الأولى في عصر النهضة في القرن الثالث عشر والإصلاح الديني في القرن السادس عشر والتنوير في القرن الثامن عشر والحداثة في القرن التاسع عشر؛ المعيار في تحديد المفاهيم السياسية والمنطلقات العقلانية والمطارحات الفكرية والتبنيات الأيديولوجية والمسارات الثقافية والركائز الاقتصادية؛ والمحور الأساس والوحيد في الحكم والتقييم على نفسه أولاً، وعلى الآخرين من الشعوب والمجتمعات والثقافات والدول والأديان الأخرى. تتمثل خطورة المركزية الغربية في بعدها الضمني، حيث إنها تخترق المنظومة الفكرية والثقافية والحضارية للإنسان بشكل غير واعٍ لاستبطان فكرة أن الغرب هو المركز، ليصبح بذلك مركز التفكير ومحوره؛ والمركزية الغربية تشكل إدراك الانسان للواقع، ما ينعكس في تصرفاته وأسلوب حياته، وهي لم تصب فقط الإنسان الغربي، والذي لديه شعور بالتفوق الغربي المطلق، ولكنها كذلك أصابت الإنسان غير الغربي، الذي استبطن هو الآخر الشعور بالتفوق الغربي المطلق؛ مع عصري النهضة وعصر الأنوار، ولد مفهوم الغرب وتراكمت من بعد فكرة مركزيته إنه ليس فقط المركز، ولكنه يشكل النموذج والنسق القياسي.
وهو في الشأن الحضاري نموذج الحضارة الغالبة المتفردة؛ وعلى البقية أن تركض وراءه وتلهث خلفه إن أرادت لحاقًا بالركب الحضاري؛ وموضع الإشكال في المركزية الغربية المحتكر مفهوم النهضة إنما يقع في قلب المقولة الخلدونية التي ترقى إلى أن تكون انتظاماً سننيّاً، لا يمكن إنكار حدوثه أو طمس شواهده؛ "المغلوب مولع بتقليد الغالب" توضيحا كافياً لكيفية استبطان الإنسان غير الغربي للمركزية الغربية، والتي تفترض التفوّق الغربي المطلق، ففي هذه الأطروحة يوضح ابن خلدون بأن المغلوب يعتقد بأن "الغالب قد قاده ليس لغلب طبيعي، وإنما لكمال الغالب ولما يتبعه من مذاهب وعوائد، لذلك يحاول المغلوب تقليد الغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه وسائر أحواله"، ومن ثم تكون صناعة القابليات من خلال مفهوم الولع أو بالتعبير المستحدث متواتر الانبهار؛ فيمرّر حالة من التقليد والتبعية.
ومن ثم، يتعدّّى إشكال النقل والمفهوم وعملية حمله من حضارة إلى حضارة، ومن ثقافة إلى ثقافة؛ ومن لغة إلى أخرى؛ وارتباط ذلك بأصل وضع المفهوم في حضارته، أعني مفهوم النهضة في قبالة الترجمة Renaissance، يتعدّى مجرّد البحث في الكلمات وعنها؛ إن الأمر يتعلق بالحمولة التي تملأ عالم التصورات والإدراكات التي تقع في المسافات التي يقطعها عالم المفاهيم مسافرا أو مرتحلا؛ مفروضا إكراهيا أو غالبا قسريا؛ منذ وضعه وحمله ونقله واستعماله وتداوله؛ إن إقرار حال الاستعمال على واقعه متغافلين عن أزمات يورثها في التفكير والموقف؛ وحال التداول؛ أيضا من الأمور المرفوضة.
ولد مفهوم الغرب وتراكمت من بعد فكرة مركزيته إنه ليس فقط المركز، ولكنه يشكل النموذج والنسق القياسي
مفهوم النهضة احتكرته الحضارة الغربية بشكلٍ من الأشكال، وحينما يقال من غير صفة النهضة الغربية أو الأوروبية أصبح يعبر عنهم، بينما سيظلّ استخدامنا له بوصفه يتعلق بنا مثل النهضة العربية أو الإسلامية مرتهنا لأصل وضعه وترجمته. ولكن يمكن الاستدراك على ذلك من جانبين، الأول الاشتقاق بين النهضة والنهوض، فهما من الجذر اللغوي نهض؛ فاستخدام الثانية يفيد نفي الالتباس، ويعيدنا إلى جوهر عملية النهوض، من دون أن يكون مسكوناً بحمولة تضر بالكلمة مفهوما وموقفا. ويتعلق الثاني بتفسير المفهوم، ويقول علماؤنا السابقون إن الألفاظ الملتبسة إن دلت على معنيين متقابلين متعارضين فيستفسر لها، فقد تأخذ حمولة متعلقة بخصوصية حضارية في أصلها عن خصوصية حضارية أخرى أو الحمولة الأولى التي انتقلت من الغرب.
ولكن، ما الدافع لتركهم يختطفون المفهوم الذي احتكر معانيه الغرب، رغم أنه من معاجمنا اللغوية. من اختطف مفهوم النهضة مثل من اختطف مفهوم الاستعمار، ومن اختطفه من بني جلدتنا حينما قدم ترجمة غير صحيحة وغير موفقة مع افتراضنا حسن النيات؛ فـ "Renaissance" هي "إعادة الولادة" ولكن تُرجم إلى النهضة. ولذلك انتقادنا المفهوم هو لحمولته التي ارتبطت بالحضارة الغربية، وليس بالمفهوم في ذاته المنطلق من حضارتنا العربية الإسلامية. مفهوم النهضة بحالته تلك نتحفظ على أن يكون هو جوهر سؤال النهوض؛ حتى لا تسيطر الدلالة الهامشية وقصتها؛ على الدلالة المركزية اللازمة والمطلوبة؛ فتزيح ما هو مركزي لمصلحة ما هو هامشي؛ فإذا استبعدنا مفهوم النهضة بكل حمولاته فهل من بديل مضمون ومأمون؟ سؤال مشروع لا بد من التطرق إليه؛ ونجيب إجابة مبدئية لا مستفيضة؛ ونؤجل التناول المستفيض والشامل؛ حينما نتعرّض لتلك المفاهيم بمناسبة خريطة أسئلة أخرى.
مفهوم التغيير والتغيير الحضاري الذي يشكل غطاء لكل مفاهيم النهوض القاصدة إلى عمليات التغيير وإدارتها على مستوى استراتيجي
مفهوم التغيير والتغيير الحضاري الذي يشكل غطاء لكل مفاهيم النهوض القاصدة إلى عمليات التغيير وإدارتها على مستوى استراتيجي. إن استخدام مفهوم التغيير "كنسق قياسي" يجعل مراجعة مفهوم النهضة أمرًا ميسورا، خاصةً أن هذا المفهوم يرتبط بخبرة تاريخية في الحضارة الغربية، وهو ما دفع كثيرين إلى تسمية عصر بأكمله عصر النهضة، نسبةً إلى التقسيمات الغربية للعصور وتحقيبها التي لا ترى العالم إلا من خلال مركزيتها ومنظورها.
مفهوم الإصلاح، فالكلمة نفسها كلمة صحيحة سليمة متكاملة إلا أن الالتباس فيها أن الإصلاح في قبالة الثورة، وأن الإصلاح تدريجي وسلمي والثورة جذري وعنيف، لماذا الإصلاح ليس جذريا، فالإصلاح وعمليات التغيير بشأن عام سُنة من السُنن، مفهوم الإصلاح بهذا المعنى باعتباره غطاء لكل عمليات التغيير الهادفة إلى عمليات الإصلاح، وتُعرف السياسة القيام على الأمر بما يصلحه، يؤكد على أهمية هذا المفهوم ضمن هذه المنظومة.
مفهوم الإحياء، وحضوره في القرآن والتراث كبير وملاحظ، ولكن أيضا أصيب بقدر من الالتباس المتعمد، وخطورة الأمر أنه كان هناك قابلية لذلك، الالتباس هنا كان في ربط الإحياء بالتراث وليس الإحياء بالنفوس، ولا الإحياء العام للأمة، لأن القصد هنا هو استخدام فكرة إحياء التراث وربطه فقط بهذه المهمة، ومن ثم جذب هذا المفهوم إلى المنطق العام الذي يتعلق بإحياء الأمة يكون أمرا مهما.
مفهوم الاجتهاد؛ وهو أداة فكرية وعملية في آن واحد وتطبيقية، وقد تلازم معه مفهوم التجديد بأبعاده الثقافية والفكرية والحضارية الواسعة، وصار هذا التجديد عنوانا لنهوض هذه الأمة، عمليات التجديد/ التجدد الحضاري (التجدد يكون ذاتيا من الأمة، أما التجديد فهو موصول بما سبقه) ومن ثم فإن التجدد قرين التجديد.
مع عصري النهضة وعصر الأنوار، ولد مفهوم الغرب وتراكمت من بعد فكرة مركزيته إنه ليس فقط المركز، ولكنه يشكل النموذج والنسق القياسي
الشهود، وهو مفهوم حضاري بامتياز، ويتعلق بكيفية صياغة النموذج المتفرّد، الشهود الحضاري في معناه هذا من المفاهيم المهمة جدا والذي يتعلق بهذا الشأن، ويرتبط به مفهوم الحضور، وكما أكدت الدكتورة منى أبو الفضل على أهم مدركات المنظور الحضاري، الحضارة حضور، والحضارة ليست الحضر في مقابل البداوة أو الريف.
الانبعاث، ويقارن به مفهوم الاستئناف الحضاري، ويتم استخدامه من توجهات عدة في مسألة النهوض، والانبعاث الحضاري؛ ومن هذه المفاهيم هناك مفاهيم مشتقة مرفوضة من مثل البعث لارتباطه بأحزاب البعث وغيرها من تجارب وخبرات أيدولوجية. وهناك مفاهيم أخرى تشكل وسطا حضاريا لعمليات النهوض مثل مفهوم العبور وقد أُخذ من الاعتبار القرآني، إلا أنه من الضرورة الإشارة إلى أن العبور والاعتبار بمثابة عملية وآلية وليس كلمة شاملة لمنظومة الإصلاح أما مفهوم الاستنهاض موصوفا بالحضاري فهو من كامل مشتقات الجذر نهض ويشير الى مسألة طلب النهوض ومفهوم الاستنهاض الحضاري الذي يشير الى طلب النهوض إدراكا وموقفا ونشطا وعملا.
منظومة وشبكية وشجرة مفهوم النهوض تصيره مفهوما منظوميا يرتبط بمثل هذه المفاهيم جميعا، من التغيير والإصلاح والإحياء والاجتهاد والتجديد والانبعاث، ويتميز بذلك ويجعل من مسألة النهضة أو النهوض سؤالاً واضحاً.