سؤال الديمقراطية في المؤشّر العربي 2022

08 يناير 2023

إطلاق المؤشر العربي 2022 في الدوحة (العربي الجديد)

+ الخط -

أعلن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة يوم 3 يناير/ كانون الثاني الجاري عن نتائج المؤشّر العربي 2022 الذي نفّذه في 14 بلداً عربياً، بهدف الوقوف على اتجاهات الرأي العام العربي نحو موضوعات سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة. والمؤشّر استطلاعٌ دوريٌّ حافظ المركز العربي على تنفيذه منذ عام 2011. وقد شمل الاستطلاع 33300 مستجيب ومستجيبة، أجريت معهم مقابلات شخصية مباشرة ضمن عيّناتٍ ممثلة للبلدان التي ينتمون إليها بهامش خطأ يراوح ± بين 2 و3%. وقد نفذ الاستطلاع الميداني بين يونيو/ حزيران – ديسمبر/ كانون الأول 2022. ويعدّ  الاستطلاع أضخم مسح للرأي العام في المنطقة العربية، سواء من خلال حجم العينة أو عدد البلدان التي يغطيها أو محاوره. واستمرار تنفيذ هذا الاستطلاع الضخم، إضافة إلى تعدّد موضوعاته، جعل بياناته مصدرا مهما للمؤسّسات البحثية العربية والدولية وللأكاديميين والخبراء. وقد شملت نتائج المؤشّر الأوضاع العامة في المنطقة العربية سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، كما عكست مؤشّر ثقة المواطنين بمؤسّسات الدولة في بلدانهم، وأداء مجالس بلدانهم التشريعية في واجبها بالرقابة على الحكومات. كما بينت النتائج اتجاهات الرأي العام نحو مدى انتشار الفساد المالي والإداري في بلدان المستجوبين، وكذلك نحو مدى تطبيق الدولة القانون بين الناس، والموقف من الربيع العربي، وغير ذلك من موضوعات.

ورسخت قناعة لدى خبراء اقتصاديين وسياسيين عديدين بأن أزمة الديمقراطية قائمة في المنطقة العربية وفي دول غربية عديدة، بسبب غياب بعدها الاجتماعي، إذ على عكس ما يراه أغلب الليبراليين الذين يعتبرون أنّ الحريات الفردية هي المبدأ الوحيد المقدّس، فإنّ الدولة في أغلب المجتمعات الديمقراطية تحمل هذه المفارقة، فهي، في الآن نفسه، وسيلة مؤسّساتية لمواجهة الاستبداد وحماية الحرية، لكنّها بتغافلها عن الحيف الاجتماعي المتصاعد تتحوّل إلى أداة لتجيير الواقع وتأييد التفاوت، ما يضرّ بحقوق المواطنين، ويبخس قيمة الديمقراطية السياسية ويضعفها، فلا العدالة الاجتماعية يمكنها أن تعوّض التوق إلى الحرية، ولا الديمقراطية السياسية المفرغة من بعدها الاجتماعي قادرة وحدها أن تحفظ كرامة الإنسان.

الدولة في أغلب المجتمعات الديمقراطية وسيلة مؤسّساتية لمواجهة الاستبداد وحماية الحرية، لكنّها بتغافلها عن الحيف الاجتماعي المتصاعد تتحوّل إلى أداة لتجيير الواقع وتأييد التفاوت

وقد أكّدت هذا المنحى كتابات كثيرة لخبراء ومختصّين في التنظير للديمقراطية في بعدها الاجتماعي، على غرار المقالات التحليلية لأستاذ العلوم السياسية في جامعة يال، أيان شابيرو. وهو من أبرز المنظّرين للديمقراطية في سياقاتها الراهنة، وكذلك كتابات رئيس المنتدى التونسي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، مسعود الرمضاني، وهو أحد المهتمين الجادّين بالحفر في انتكاسة تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس بعد أكثر من عشر سنوات من انفجار الثورة التونسية (14 يناير/ كانون الثاني 2011)، والتي كانت صرخة غضب من المناطق الداخلية والأطراف المحرومة والشباب المهمّش من أجل تجاوز الحيف الاجتماعي، وإيجاد فرص الشغل، وإنتاج الثروة، ورفض النظام الاستبدادي القائم، ولكن النخبة السياسية التي حكمت خلال العشرية الماضية، والتي تحكم حاليا في تونس، لم تستفد من الانفتاح السياسي، ولم تكن تحمل تلك الهموم التي عبّرت عنها شعارات الثورة، هاربة من مواجهة المشكلات الفعلية من فقر وتضخّم وأزمات حياتية معقّدة، لتحصر اهتماماتها في محاولة ديمومة حكمها. وفي الجزائر مثلا، يتفق أستاذ الفلسفة في جامعة وهران، الحسين الزاوي، مع ضرورة عدم تجزئة الحقوق، حيث يعتبر أن الديمقراطيات الغربية اختزلت الإعلان العالمي لحقوق الإنسان في مبدأ الحرية السياسية. لكن، مع اعترافه بأهمية هذا المبدأ، إلا أنه يعتبره منقوصاً، إذ هو يفتقد إلى رؤية تسمح، كما يقول، بانتقاله من خانة المبادئ إلى دائرة الفعل، في سياق نسق مجتمعي لا يضحّي بالحقوق، من أجل كسب الرهانات الاقتصادية. وها إنّ دولاً عريقة في الديمقراطية تظل اليوم غير قادرة على توفير المتطلبات الأساسية لمواطنيها، بتراجع دورها الاجتماعي تتعرّض فيها الديمقراطية لهزّات واضطرابات تؤكّد أنّ العقد الاجتماعي التقليدي الذي تأسّس إثر الحرب العالمية الثانية قد أخذ في التلاشي. ولعلّ ذلك ما يفسّر صعود التيارات الشعبوية والقومية المتطرّفة، وعاد معها خطاب الكراهية العنيف والازدراء بحقوق الإنسان.

أزمة الديمقراطية التي تعيشها المنطقة وبلدان غربية عدة ستظل تتفاقم عبر السنوات المقبلة

يؤكد ذلك كله أن أزمة الديمقراطية التي تعيشها المنطقة وبلدان غربية عديدة ستظل تتفاقم عبر السنوات المقبلة، وأن سؤال الديمقراطية من أهم الأسئلة التي يجدُر التوقف عندها. وها هو المؤشّر العربي يفرد لهذا السؤال هذا الاهتمام. وقد أظهرت نتائج نسخته الثامنة (2022) أن الرأي العام شبه مجمع على تأييد الديمقراطية، إذ عبر 72 % من المستجيبين عن تأييدهم للنظام الديمقراطي مقابل 19% عارضوه، كما أفاد 71% من المستجيبين بأن النظام الديمقراطي التعدّدي ملائم ليطبق في بلدانهم، في حين توافق ما بين 53% و50% على أن أنظمة، مثل النظام السلطوي، أو نظام يتولّى الحكم فيه العسكريون أو حكم الأحزاب الإسلامية فقط، أو النظام القائم على الشريعة من دون انتخابات وأحزاب، أو النظام المقتصر على الأحزاب العلمانية (غير الدينية)، هي أنظمة غير ملائمة لتطبّق في بلدانهم.

وتُظهر مقارنة نتائج هذا الاستطلاع بالاستطلاعات السابقة أن انحياز الرأي العام إلى الديمقراطية لا يزال ثابتا، كما قابل توافق الرأي العام على تأييد الديمقراطية تقييم سلبي لتوافق الديمقراطية ومستواها في البلدان العربية، إذ قيّم المستجيبون مستوى الديمقراطية بـ5.3 درجات من أصل 10 درجات، أي إن الديمقراطية في العالم العربي، بحسب وجهة نظرهم، لا تزال في منتصف الطريق. وبذلك، تقييم الديمقراطية في مؤشّر 2022 هو أقلّ من الذي سُجّل في استطلاع 2019 - 2020. أما فيما يتعلق بتقييم مستوى الديمقراطية من خلال تقييم المواطنين قدراتهم على انتقاد حكومات بلدانهم على مقياس من 1 إلى 10 درجات، فقد أظهر المؤشّر أن قدرتهم على انتقاد حكوماتهم محدودة، إذ منحوها 5.8 درجات من أصل 10. وقد حصلت مصر وفلسطين والسعودية على أقل الدرجات في هذا المقياس. وهذه أهم المؤشّرات التي أبرزتها نتائج المؤشّر العربي في سؤال الديمقراطية بالمنطقة العربية، وهي مؤشّرات جادّة يمكن اعتمادها في مراكز البحث والأوساط الأكاديمية ووسائل الإعلام وغيرها، حتى لا يظلّ كلامنا عن الديمقراطية فضفاضا عاما، بعيدا عن واقع البحث العلمي والإحصائي الجاد.

35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي