سؤالنا الأخلاقي في رحلة الاستغراب الفلسفي
طرحنا سابقاً نقطة نظام في الجدل الفلسفي مع الغرب، بعد الصعود المحمود الذي تصدّره طه عبد الرحمن لمدرسة الفلسفة الأخلاقية، القادمة من الشرق بعد تعطّل حضاري طويل، خسرنا فيه شرقياً قروناً طويلة وخسر العالم فلسفة يؤسّس عليها منظومة التعامل بين البشر وذاتهم، وبين البشر وعناصر عمران الأرض، وفق المركزية الأخلاقية التي حرّرها طه عبد الرحمن، والتي قد يختلف البحث عنها وفيها، في جسور وطرائق متعدّدة لتفكيك مأساة الإنسانية، ليس في الحداثة المعاصرة وحسب، ولكن في الإرث المشتبك من الوثنية الإغريقية، حتى وثنيّة الحداثة، والتي دار حولها فلاسفة عديدون، ومن ذلك ما قاربه تيّار من التنوير الفلسفي الأول.
وتجاوز هذا الفارق بين فلسفتين في تاريخ الغرب المعاصر يُسقط ركناً مهماً من فهم أزمة الغرب الذاتية، ومآلات العالم اليوم تحت قهر الحداثة، كما أنهُ يعيد التفكير النقدي العميق عن دور ذلك الإيمان بالله الموجِد، وبفطرته في النفس البشرية، الذي استحضره ذلك الجيل، لكنه تاه عن الوصول إلى البيان الذي أُنزل لهذا العالم لفقه حركة الإنسان ووجوده، ومركزه الأخلاقي ككائن عاقل ربط بضمير أخلاقي، حدّده البيان السماوي، لا نزعات المصالح لصراع الأمم. وهنا بتنا على مقربة من المقارنة الدقيقة، في الفارق الذي تقدّمه الحضارة الإسلامية، وهي ضمان صحّة النص وتطابق تأويله المقاصدي، في كلا المسارين المشكلين في تاريخ الغرب المعاصر، وهي التي حدّدها طه عبد الرحمن بانتفاء التسامحية، وانتفاء العقلانية، في التاريخ المسيحي الديني للغرب.
تاريخ المسلمين والصراعات المتعدّدة فيه، ونجاح الاستبداد السياسي المبكّر، ألقت صورةً سوداوية ضخمة على صوة الدين الإسلامي
وعلى العكس تماماً في الحضارة الإسلامية، كان النصّ في أصله، لا في مناسخات التراث المنحرفة، موثّقا ومطابقا للعقل المعرفي البرهاني والأخلاقي، لا العقل التجريبي الحداثي، ومؤهل لقاعدة دستور تسامحي، لكنها تقوم في الإسلام على الرؤية الكونية للتراحم والتشارك، في العمران والإحسان بين الإنسان. وهنا الفارق المركزي العميق المتفق مع فلسفة عبد الرحمن. ويستدرِكُ بعضهم على ذلك بأن تاريخ المسلمين قد تعرّض للإشكالية ذاتها، وهي "لا عقلانية" الدين الإسلامي، و"لا سامحيته". ونصحّح هنا، أولاً، بأن الإشكالية في المسيحية هي في فقدانها كونية الرؤية القرآنية وفي ثابت النص المحدّد ذاته، وهو نصٌّ مضطربٌ ومختلفٌ بحسب التوثيق المسيحي، في نسخ الإنجيل، أو العهد القديم وما نشر من التوراة، في حين ظلّ القرآن والوحي المقطوع به في كلام النبي صلى الله عليه وسلم موثقّي النقل والنص، وبقيَ للقرآن حقيقة تأصيل ممتدّة البرهان في تنزيله ومعانيه لم تتبدّل، لبيان الخالق إلى العالم المخلوق.
النقطة الثانية أن تاريخ المسلمين والصراعات المتعدّدة فيه، ونجاح الاستبداد السياسي المبكّر، ألقت صورةً سوداوية ضخمة على صوة الدين الإسلامي ونموذجه التسامحي، عبر فعل التأويل المتعسف للبغي السياسي، أو التحريف، وهو ما سبّب انحرافاً تاريخياً في حاضر العالم الإسلامي، عطّل قوة المركز الأخلاقي، وورشة النهوض العمراني الكبرى التي كان من الممكن أن تُحَرِّرَ فلسفتها وتُصلح ذاتها، كقوة أخلاقية لاقهرية عسكرية عنصرية، تحمي قدراتها شروط التدافع والتأهيل المشروعة، وتعيد صياغة فكرة الوجود الكوني والإنساني، في جوهره الرشيد الذي عجز عنه الغرب، قبل أن يرتدّ إلى وثنية الإنسان الإله ويغوص في مستنقعه.
لم يكن روسّو يستدعي الدين الطبيعي مطلقاً، ولكن الاطمئنان الروحي، الذي رآه لازماً لروح الفرد
ولننظر هنا إلى نصّ جان جاك روسّو في رسالته "أصل التفاوت"، في أصل الانحراف في فكرة الدين في التاريخ المسيحي: أصبح الملوك يَعدُّونَ حكمهم ميراث أسرة، ويعدون أنفسهم مالكي الدولة رغم أنهم لم يكونوا إلا (كما يفترض) موظفين فيها، فيدعون مواطنيهم عبيداً ويحسبونهم من الأنعام بين الأشياء التي يملكونها، ويدعونَ أنفسهم مساوين للآلهة... فهذا النص مع كونه دلالة تفكير مهم في ضمير الفلاسفة من أمثال روسّو، يأخُذنا بقوة إلى أزمة تاريخ الاستبداد السياسي في تاريخ المسلمين، وكيف تحوّلت مواقفهم الى تشريعات، وغالى بعضهم في ذاته، فهدم مقصد النص، ووطّن ذاته صنماً يشارك الله والنبي في تشريعه، فأين تقف فلسفتنا الأخلاقية هنا؟
ولذلك، نفهم هنا ذلك التنازع الضميري في روسّو، والعودة إلى لله (الكائن الأعظم) في أكثر من فصل في كتبه، بل وحتى حين كان يحرّر أزمة الخطاب الكنسي، فهو لم يكن يستدعي الدين الطبيعي مطلقاً، ولكن الاطمئنان الروحي، الذي رآه لازماً لروح الفرد، بل وقطع به في سخريته من الإلحاد، وأن الضمير الشعوري لوجود الله أقوى من نظريات الإلحاد، وهو متّفق مع النص الذي وثّقه روسّو في اعترافات كاهن سافوا، خلافاً لما استنتجه طه عبد الرحمن. لكن روسّو، وإن أثنى على تجربة النبي صلى الله عليه وسلم السياسية، إلا أنه لم يتعمّق في كونية المعرفة الإسلامية، ولا في مساحتها التشريعية الدستورية، المتباينة عن الإمبراطورية الرومانية، في مركزها الأخلاقي الأممي وفي حقوق الفرد والمجتمع، وفي مضبطة حقوق تُعلي المرجع الإلهي لخدمة الإنسان وضمان حقوقه لا استخدامه وتسخيره، وتحمي سر فطرته ووجوده، ولا تعتدي على روحه لتسحقها أمام صنم الإنسان المادي الحداثي.