زيارة قيس سعيد أبي النحس المتشائل للقاهرة
أستغرب أن يستغرب بعض الناس زيارة الرئيس التونسي، قيس سعيد، مصر ولقاءه مع عبد الفتاح السيسي، وقضاء ثلاثة أيام زار خلالها الكنيسة والجامع والأوبرا والمتحف، وتجوّل في قاهرة المعز.
الرئيس التونسي جزء من النظام الرسمي العربي، والإقليمي، وليست ثمة مشكلات دبلوماسية بين تونس والقاهرة، كما لا توجد أزمات حدودية، ولا صراعات على غاز أو مياه، فما الذي يمنع أن يقوم رئيسٌ يواجه أزمات مع برلمانه ذي الأكثرية النهضوية، الإسلامية، من زيارة جنرال متخصّص في بيع مستلزمات وقطع غيار الحرب على الإسلام السياسي الذي يدمغه بالإرهاب؟
الرئيس التونسي نموذج للأكاديمي الشاطر، أستاذ قانون وسفسطة سياسية، يغترف من آبار الشعبوية، وإن كانت شعبويته تتخذ شكلًا فصيحًا ومثقفًا، إذ يجيد تمثيل شخصية الحاكم الملتزم بقواعد النحو العربي والإملاء، في إطارٍ يبدو مضحكًا أحيانًا، إلى حد أن بعض منتقديه التونسيين أطلقوا عليه لقب "الرئيس الروبوت" على العكس من نمط الشعبوية السيسية التي هي مزيج من التهريج والسطحية والشعوذة، أو بكلمة واحدة: شعبية مهرجانية، نسبة إلى ذلك اللون من الغناء الطافح في التربة المصرية الآن.
الشاهد أن شعبويًا زار شعبويًا آخر، وجد فيه حليفًا جيدًا في معركةٍ يخوضها الشعبوي الأول ضد فصيل سياسي، لدى الشعبوي الثاني تجربة وخبرة في سحقه وشيطنته.
صحيحٌ أن الشارع العربي كله لم ينم في تلك الليلة التي كان يتم فيها فرز أصوات انتخابات الرئاسة التونسية، ومؤكّد أن كل الثوريين والقوميين والإنسانيين العرب ظلوا يلهجون بالدعاء بنجاح ذلك المرشّح البسيط المثقف المتواضع، صاحب شعار "التطبيع خيانة عظمى". وثابت يقينًا أن كاتب هذه السطور كان من هؤلاء المعلقة قلوبهم بالتلفزيون التونسي، للاطمئنان على نجاح ذلك الرمز الذي قلت فيه حين نجح "جاء قيس سعيد هديةً تسد رمق الجماهير إلى الحرية والكرامة الوطنية والإنسانية، فصارت كلماته البسيطة هتافًا للصامتين والموجوعين والحالمين .. قيس سعيد هو مرشّح فلسطين والقدس، ذلك كان طريقه إلى الرئاسة، حين أجاب، ببساطةٍ صادقة، عن أسئلة فلسطين والتطبيع والحرية والثورة، فجاءت ردوده من خارج نصوص البلادة والعجز المكدّسة في كتب النظام الرسمي العربي، وملاحقه المتناثرة هنا وهناك".
نعم أنا كتبت هذه السطور في غمرة الحماس لذلك المتشح بألوان علم فلسطين، والعارف بفضل محمد البوعزيزي وتضحياته.. ذلك كله مقطوع به، ومعلوم من التاريخ بالضرورة. لكن ما الذي يمنع أن يتحوّل الشخص نفسه في ظرفٍ عام واحد، أو يزيد، من أيقونة تغيير ديمقراطي إلى صديق لكل ما ناضل ضده وحليف لمن طرح نفسه نقيضًا له؟
لقد مرّ بنا ذلك النموذج المتحوّل خلال عشرية الربيع العربي، في أكثر من مكان، وكم اندهشنا واستغربنا وصدمنا، حتى أدركنا أن الشخص الواحد يمكن أن ينقسم على اثنين، فيكون مع علي، حين تكون الثورة والمنافسة على أصوات الجماهير..ثم يصبح مع معاوية، حين يستقرّ على أريكة السلطة، ويرتدي أزياء الحكم.
من "التطبيع خيانة عظمى" بدأ قيس سعيد حين كان مرشحًا، ثم انتهى به الأمر صديقًا شخصيًا لجنرالٍ جاء إلى الحكم بانقلاب رعته واحتضنته إسرائيل، واعتبرته أعظم انتصاراتها منذ العام 1967. وقبل أن يصل إلى هذه النقطة، كان من المتفهمين المباركين لفضيحة التطبيع الإماراتي البحريني، مطلقًا تصريحه الشهير "لا نتدخل في اختيارات بعض الدول ولا نتعرّض لها، ونحن نحترم إرادة الدول، فهي حرة في اختياراتها وأمام شعوبها".
هذا هو قيس سعيد، الذي يذكّرني بشخصية البطل في الرواية الأشهر للكاتب الفلسطيني إميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس: المتشائل"، ذلك الإنسان الواحد، المنقسم على ذاته، ليكون شخصين متناقضين، أحدهما الحالم، المتفائل، بوطن حر لإنسان حر، والثاني يقرّر، في نهاية المطاف، أن يكون الواقعي، المتشائم، بمنتهى الخضوع، مستسلمًا للاحتلال الذي اغتصب وطنه.