زيارة حماس اللافتة إلى موسكو
حطَّ وفد رفيع من حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بشكل مفاجئ الأسبوع الماضي في موسكو، بناء على دعوة رسمية من الحكومة الروسية. وبدت الزيارة لافتة ومهمة جداً قياساً للتطورات التي جدّت أخيرا، والمتعلقة بالجانبين تحديداً فيما يخصّ الاقتحامات الإسرائيلية للأقصى وأجواء المقاومة بمواجهتها التي تتموضع فيها "حماس" بشكل مركزي، كما الغزو الروسي لأوكرانيا وسعي موسكو إلى تخفيف عزلتها الدولية عبر التقرّب من الرأي العام العربي والإسلامي، كونها تعرف أن مواقف الأنظمة العربية - الإسلامية الرسمية المتساوقة والمتماهية معها لا تفيدها ولا رصيد شعبياً لها، إضافة طبعاً إلى سعيها إلى مماحكة أميركا والغرب، والحضور والمنافسة في منطقة حساسة وحيوية من العالم، عبر استقبال وفد قيادي لحركة يعدّها هؤلاء إرهابية في تصنيف ظالم ومنافق ومزدوج، يتعارض مع كل ما يقولونه عن روسيا وحق الشعب الأوكراني في مقاومة غزوها غير المبرّر لبلاده.
جرى الإعلان عن الزيارة فقط مع وصول وفد "حماس" برئاسة عضو المكتب السياسي مسؤول العلاقات الدولية، موسى أبو مرزوق، وعضوي المكتب، حسام بدران وفتحي حماد، وممثل الحركة في موسكو، ومن دون أي تمهيد مسبق، مع تأكيد أطراف حمساوية مطلعة أنها تمت بناء على دعوة مسبقة ولا ترتبط مباشرة بالتطورات الأخيرة في المسجد الأقصى والقدس وفلسطين بشكل عام خلال الأسبوعين الماضيين (شهر رمضان وذكرى "استقلال إسرائيل") أو التوتر الأخير أيضاً في العلاقة بين روسيا وإسرائيل على خلفية تصريحات وزير الخارجية سيرغى لافروف عن أصول يهودية للزعيم النازي أدولف هتلر، ما اضطر الرئيس فلاديمير بوتين شخصياً للاعتذار عنها في اتصاله مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، نفتالي بينت، حيث تزامن الاعتذار مع وجود وفد حماس في العاصمة الروسية.
استخدام الورقة الفلسطينية للتغطية على سياسات خاطئة ومرفوضة ومعزولة كان ولا يزال تصرّفاً موصوفاً لأنظمة الاستبداد
وهذا يعني أن الزيارة مرتبطة مباشرة بالغزو الروسي لأوكرانيا، وما أثاره من تداعياتٍ وردود أفعال عربية ودولية رافضة في معظمها الغزو، في سياقها الشعبي، وبالتالي يمكن استنتاج أن روسيا تسعى إلى التقرّب من الرأي العام العربي والإسلامي الذي تتمتع حماس والقضية الفلسطينية بدعمه وتأييده الكبير. مع الانتباه إلى أن استخدام الورقة الفلسطينية للتغطية على سياسات خاطئة ومرفوضة ومعزولة كان ولا يزال تصرّفاً موصوفاً لأنظمة الاستبداد في السجال والمماحكة مع الخصوم والأعداء، وزيادة الحضور والنفوذ الإقليمي والدولي، وهو ما فعلته أنظمة الفلول القدامى سيئة الصيت والساقطة في العالم العربي، رغم المحاولات اليائسة لإعادة إنتاجها أو تحديثها عبر الفلول الجدد في القاهرة ودمشق وعدن وبنغازي.
لا بد من التذكير أيضاً أن روسيا قوة قائمة بالاحتلال في أوكرانيا، تماماً كما إسرائيل في فلسطين. وكان هناك إقرار واضح من وزير الخارجية لافروف بذلك، حيث قال ردّاً على من يشعرون بالقلق من الغزو الروسي، اعتبروا أن أوكرانيا هي فلسطين وروسيا مثل أميركا وإسرائيل، بينما يتبدّى التناقض هنا ومباشرة في استقبال حركة مقاومة فلسطينية للاحتلال الإسرائيلي مع تجريم المقاومة الأوكرانية للاحتلال الروسي وشيطنتها.
في كل الأحوال، نحن أمام إقرار روسي بقيمة ومكانة حماس فلسطينياً وعربياً وإسلامياً، خصوصا بعد التطورات في الشهور والسنة الأخيرة بشكل عام، والتعاطي مع الحركة ليس بوصفها مجرّد رقم مهم فلسطينياً وعربياً، وإنما حتى حركة قائدة للشعب الفلسطيني تحكم نصف مواطنيه بالداخل في غزة، وتتمتع بتأييد نسبة مماثلة على الأقل في الضفة الغربية والشتات، في ظل عجز السلطة الفلسطينية في رام الله وانفصالها وقدراتها الضئيلة والمحدودة في التأثير على الأحداث والتطورات العاصفة والمتلاحقة حيث بدت غير ذات صلة ولا يكترث لها الفلسطينيون.
تزامنت زيارة وفد "حماس" بشكل مباشر مع التوتر الروسي الإسرائيلي، أخيرا، على خلفية الموقف الإسرائيلي الرسمي المتحفظ من الغزو الروسي لأوكرانيا
تعي حركة حماس ذلك جيداً بالطبع، وما كانت لترفض الدعوة، على الرغم من فهمها خلفيات هذه الدعوة طبعاً، خصوصا مع التطورات والأجواء المتوترة في المسجد الأقصى والقدس والأراضي الفلسطينية التي حمّلتها إسرائيل مسؤولية قيادتها بينما ردّت "حماس" على طريقة "تهمة لا ننفيها وشرف لا ندّعيه". وقد تزامنت الزيارة أيضاً بشكل مباشر مع التوتر الروسي الإسرائيلي، أخيرا، على خلفية الموقف الإسرائيلي الرسمي المتحفظ من الغزو الروسي لأوكرانيا، وتصريحات وزير الخارجية، يئير لبيد، عالية السقف عن جرائم الحرب الروسية في مدينة بوتشا، والردّ التصعيدي ضده وصولاً إلى الحديث حتى عن وجود نازيين في القيادة الأوكرانية رغم يهودية الرئيس فولوديمير زيلينسكي نفسه. وكانت موسكو قادرة على تأجيل الزيارة إلى حين انتهاء الأزمة، لكنها حرصت على حصولها في موعدها، حتى مع اعتذار بوتين لإسرائيل في أثناء استضافة وفد "حماس"، وهي إشارة لافتة وذات دلالة بحد ذاتها.
في العموم، يمكن تلخيص الموقف الروسي المتضمن تكريس مكانتها قوة عظمى، على الرغم من العزلة والقطيعة الغربية والدولية، وأن دعم القضية الفلسطينية وفق الحلّ المتفق عليه فلسطينياً وعربياً ودولياً لا يعني كسر الأواني مع الدولة العبرية والقطيعة، وإضعاف العلاقات معها، كما تبدّى أيضاً في تهنئة بوتين الدافئة والحميمة لإسرائيل بذكرى تأسيسها، وتبنّي روسيا لغة مماثلة تماماً للهجة أميركا والغرب تجاه التطورات في المسجد الأقصى، عبر مساواة الجاني بالضحية، ودعوة كل الأطراف إلى التهدئة وتجاهل جذر المشكلة المتمثل بالاحتلال وممارساته وقتل 50 فلسطينيا من مواطني الضفة الغربية في أثناء الاقتحامات العسكرية لها بمعزلٍ عن دخول "حماس" وقيادتها في غزة على الخط.
موسكو تنحّت جانباً في أثناء مساعي فرض صفقة القرن والسلام الاقتصادي لدونالد ترامب، كما دعمت موجة التطبيع العربي الإسرائيلي أخيرا
إذن، تمثل الهدف الروسي الأساسي ولا يزال، باستمالة الرأي العام العربي الإسلامي ومماحكة الغرب. ولا يمكن، بالطبع، استبعاد الرغبة في تعزيز الحضور فلسطينياً وعربياً، مع رسالة طمأنة بأن هذا يتم تحت السقف أو القواعد المحددة والمرسومة أميركياً والمقبولة إسرائيلياً، وغربياً ودولياً بشكل عام، ولو نظرياً ودعائياً. وفي السياق نفسه، يمكن وضع توجيه الدعوة إلى رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، لزيارة موسكو الشهر المقبل، وفصائل أخرى في الصيف، لتحقيق الأهداف نفسها، وهي كسر العزلة باستخدام ورقة القضية الفلسطينية، وممحاكمة الغرب ومنافسته من دون كسر الأواني مع إسرائيل، علماً أن التنسيق الأمني والعسكري مستمر في الساحة الأهم لها، سورية، كما قال وزير الدفاعن الجنرال بني غانتس، قبل أيام، وهو ما يهم تل أبيب بشكل أساسي مع اطمئنانها وعدم قلقها فعلاً، رغم تظاهرها أحياناً بعكس ذلك، من التحرّكات الروسية الدعائية فلسطينياً، مع التذكير أن موسكو تنحّت جانباً في أثناء مساعي فرض صفقة القرن والسلام الاقتصادي لدونالد ترامب، كما دعمت موجة التطبيع العربي الإسرائيلي أخيرا، حتى مع فهمها دلالات هذه الموجة وحيثياتها وأهدافها بتجاوز القضية للفلسطينية وإزاحتها عن جدول الأعمال العربي الإقليمي والدولي. أما حديثها عن عقد اجتماعات للرباعية الدولية واستئناف عملية التسوية فضريبة كلامية للاستهلاك الدعائي ترضي الفلسطينيين والعرب، ولكنها لا تؤذي إسرائيل أو تنعكس سلباً عليها في أي حال.