زمن التفاهة والمليون دولار
تصادفني، في بعض الأحيان، على مواقع التواصل مقاطع لمقابلات مع فنانين وممثلين مغمورين، لم يسبق أن سمعت بأي منهم أو شاهدت لهم أعمالا؛ وهذا تقصير مني، فأنا لم أعد قادرة على متابعة الإنتاج الدرامي العربي المنقول عن التركي للترفيه عن نفسي. ومصادفةً، حصد معظم هؤلاء شهرتهم من هذه الأعمال كما يقولون هم في لقاءاتهم. صرتُ أكتفي بمتابعة أعمال جدّية وجديدة، وفيها بعض الرصانة التي صارت مفقودة في زمن "المديوكر"، هذا على رأي إخوتنا المصريين. ولا داعي هنا للحديث عن تفاهة الحوارات والأسئلة التي يطرحها مقدّمو البرامج على ضيوفهم، فهي تتناسب تماما مع الفضائحية التي أفرزتها وسائل التواصل الاجتماعي، المناقضة لقيم النبل وحفظ المستور، سواء أكان يتعلق بالشخص نفسه أو بالآخرين، والتي تستبيح حياة البشر بالكامل وتجعلها عرضةً لكل أنواع التلفيق والكذب. والغريب أن معظم هؤلاء الفنانين يسعون إلى الاستباحة تلك، وهم بذاتهم يضعون أنفسهم في مقامات متدنّية رغبة بتحقيق أكبر عدد من المتابعات، حتى لو على حساب سمعتهم الشخصية والعائلية والأخلاقية.
على أن أكثر ما يلفت نظري في هذه اللقاءات سؤال يتم طرحه على جميع الضيوف تقريبا يتعلق بحجم "ثروة" كل منهم. ولا أخفيكم أنني حين سمعت هذا السؤال أول مرة يطرح على ممثلة سورية معدومة الموهبة، ضحكت، فما هي الثروة التي يمكن أن تحققها واحدة كهذه، لكنني سرعان ما ذُهلت، حين أجابت بأنها ليست ثرية أبدا، وهي تشعر بأن شركات الإنتاج تظلمها، فما تملكه لا يصل إلى المليون دولار. قالتها باعتيادية أخافتني، وكأن مبلغ المليون دولار يمكن الوصول إليه بكل سهولة، وهي ليست نجمة معروفة، ولا تُسند إليها أدوار بطولة، فما هي إذا أجور كبار النجوم ومن أين تأتي هذه المبالغ المهولة التي يتقاضونها؟ ثم ما هو الثراء إذا كانت تلك الممثلة المغمورة تعتبر نفسها ليست ثرية، لأن ما تملكه لا يكاد يصل إلى المليون دولار؟
والحال إن ما أراه من مقاطع من هذا النوع يصيبني بالغضب، ولا أستطيع أن أبعد ذهني عن المقارنة بين الحياة التي يعيشها هؤلاء وحياة آلاف الكتاب والمثقفين في عالمنا العربي ممن يعيشون حياة الكفاف، أو ممن يمتنّون للظروف التي جعلتهم يكملون الشهر من دون أن تتراكم عليهم الديون، وأحكي هنا عن كتّاب ومفكرين وأكاديميين معروفين بما قدموه للفكر والعلم والثقافة. ولعل هذا مقام مناسب لنذكر قامة سورية فكرية واقتصادية، بحجم الاقتصادي السوري عارف دليلة، الأكاديمي الفذ والمعارض المحترم الذي انتشرت أخبار، أخيرا، تفيد بأنه أخرج من بيته في الإمارات غصبا، لأنه لم يتمكن من دفع إيجار منزله منذ عدة أشهر، وهو الخاضع لعملية جراحية حرجة لمن هو في مثل سنه. وقد لا يكون الوحيد بين النخب الفكرية السورية الذي يتعرّض لهذا المصير، هناك كثر تعرّضوا ويتعرّضون لمصائر مشابهة لم يسمع بهم أحد، بينما يتذمّر التفّه ومعدمو الموهبة والأميون من "ظلم" يقع عليهم يعيق حسابهم البنكي من الوصول إلى مبلغ المليون دولار.
سيحدثني بعضهم عن رأسمال الشركات المنتجة وعن سوق الدراما الحالية وعلاقتها بالمعلن ومنتجه، وعن اقتصاد السوق الاستهلاكي المرتبطة بالمنصّات الإعلامية الجديدة. وربما سيحكي بعضهم عن عمليات تبييض الأموال تحت اسم الإنتاج الدرامي الناتجة عن تجارات ممنوعة قانونيا، كالمخدرات والسلاح والرقيق الأبيض والأطفال وغيرها، والتي جاءت بمثابة ضربة حظ لفئة صناع الدراما خصوصا الممثلين منهم.
لكنني لن أتمكّن من استيعاب هذا الأمر وفهمه، ولا من التوقّف عن الإحساس العارم بالظلم. وليس الأمر هنا شخصيا (وإن كنتُ من سوريين كثر مثلي يحلمون بمجرّد امتلاك بيت صغير)، ولكن ثمّة غيابا مرعبا للعدالة في هذا العالم، خصوصا في عالمنا العربي، وتغييبا مقصودا لقيم العلم والفكر والثقافة عبر تهميش أصحابها والإعلاء من شأن التفاهة والسطحية وتكريسها واحدةً من وسائل الثراء الذي بات يستعرضه محدثو النعمة على وسائل التواصل الاجتماعي بوقاحة مستفزّة لا تفعل شيئا سوى مراكمة الغضب الناتج عن الفرق الطبقي بين شرائح شعبية واسعة جدا لا تجد لقمة عيشها وبين جهلة جعلتهم الثروات المباغتة يقدّمون أنفسهم نخبا يحتذى بها، بينما النخب الحقيقية تعاني ما تعانيه من دون أن يكترث بها أحد.