زلزال عادل الهشوم
لا كتابة أدبية أو صحافية عربية ترقى إلى مستوى الزلزال، لسببين كبيريْن، أولهما أنّ سقف كتاباتنا، نحن الكتّاب العرب، منخفض، بسبب كثرة الممنوعات السياسية والدينية والاجتماعية، وفظاعتها، حتى إنّنا لا نقول إنّ فلاناً كتب في الممنوعات، بل نستخدم فعل "ارتكب"... وهذا يفسّر لنا أنّ الظاهرتين الأكثر شيوعاً في بلادنا، اليوم، التكفير والتخوين... وثانيهما أنّ معظم الناس، في مناطقنا، لا يقرأون، فلو أبدع كاتبُنا إلياذة، وأوديسة، ورسالةَ غفرانٍ جديدة، لذهب إبداعه مثل ما يذهب صوتٌ منخفضٌ في سوق النحاسين.
لم يقرأ أهل الشمال السوري المحكومون بسلطة الجولاني، ولا حتى المسؤولون في الدولة التركية الذين يمتلكون مركزاً للزلازل يُفترض أنّه متقدّم، تغريدةَ العالم الجيولوجي الهولندي فرانك هوغربيتس التي تنبأ فيها، عِلمياً، بوقوع زلزال في هذه المنطقة قبل وقوعه بثلاثة أيام، فلو قرأوها، واهتموا بها، لقاموا بإجراءات، وأطلقوا نداءات تحذير، من شأنها أن تجنّب تلك المناطق كميةً لا يُستهان بها من الأضرار البشرية... لكنّ الشيء الطبيعي أن يهتمّوا بها "بعد" وقوع الكارثة، ويحوّلوها إلى "تريند"، وزعم بعضهم أنّها سُجلت ونُشرت على "تويتر" بتوقيت سابق.
تشبيه الناس ما حصل لحظة وقوع الزلزال بيوم القيامة بالغ الإصابة، مع أنّه يوحي، أول وهلة، بأنّنا شهدنا يوم القيامة وصرنا نعرفه، وهذا دليلٌ على أنّ مخيّلاتنا كانت قادرةً، في يوم من الأيام، على تحويل المادة المدوّنة في الأحاديث وكتب السيرة إلى صورةٍ نابضة، سرعان ما استدعيناها ونحن نرى كل شيءٍ على الأرض يهتزّ، ويتراقص، ويتقصّف، ثم يهوي، فيحطّم، ويَسحق، ويطحن ما في داخله، وما حولَه من حجارة، ومعادن، وأضواء، وأجساد بشرية غضّة، ويترافق سقوطُه مع خليط أصوات صراخ، وشهقات، وولاويل، و(انجُ سعدٌ هلك سعيد).
فئتان، في بلادنا، تتبنّيان نظرية المؤامرة على نحوٍ لا يقبل الجدل: الحكّام الديكتاتوريون الذين اعتادوا أن يحمّلوا الدولَ الاستعمارية، أميركا وأوروبا بشكل خاص، مسؤولية الهزائم العسكرية، وإخفاق الخطط الاقتصادية والتنموية، وتراجع التعليم، وتردّي الأوضاع الصحية، والعجز عن مواجهة الكوارث. وفئة الجماعات الدينية المؤدلجة التي تضخّ، على نحو يومي، فكرة أنّ الغرب لا ينام، ولا يهجع، وهو يفكّر في إيذائنا، وقتلنا، وإخراجنا عن ديننا. ومع أن هؤلاء ينفون، في أحاديثهم ومؤلفاتهم، مقدرة أي إنسان على صناعة كائنٍ حي، فقد ذهب كثيرون منهم إلى أن فيروس كوفيد 19 قد تم خلقه وتطويره، وتزويده بميزة العدوى، في المختبرات الغربية، وكانوا يجابهون من يقول لهم إنّ الغرب أصيب بكوفيد قبلنا، بالقول إنهم ملاعين، اخترعوا له دواء من قبل أن يوجدوه.
كنّا، قبل عصر الإنترنت وثورة الاتصالات العظيمة، نسمع أنّ زلزالاً ضرب منطقة ما، وأدّى إلى مقتل عدد من الناس، وتهدم عدد من المنازل، وصلّى الله وبارك. أما الآن، ولكي تحترق أعصابنا، وتشتعل نفوسنا قهراً، أصبحنا نرى البناية وهي تسقُط، والناس يركضون، وفرق الإنقاذ تسحب أحياء وموتى من تحت الأنقاض، ويأتينا، في كلّ دقيقة، إشعارٌ من صفحة الوفيات، يعدّد لنا أسماء الذين ماتوا، ونحن نعرفهم قبل أن ننزح من أوطاننا، ولم نكن نعرف أنّهم كانوا ملتجئين في أنطاكية، أو مرعش، أو سلقين، أو عفرين. ثم نعرف، بموجب هذه الاتصالات المتطوّرة، أين دفن محمود، وفي أي مشفى يرقد فهد، وكم ساعة لبثت عفراء تحت الأنقاض، وكيف جرت عملية إنقاذها ... ونرى، عن كثب، كيف تتم عمليات النصب والاحتيال على المقيمين في الخليج أو أوروبا، وأخذ المال منهم بذريعة مساعدة المنكوبين، وهناك من يأتيك خبر وفاته، مثل صديقي عادل الهشوم، فيجعلك تبتسم وتعبس، لأنك تعرف أنّ "أبو عدنان" هذا كان أقرب بالشبه إلى زوربا، وأنت، في الأصل، تتوقّع له كل شيء، عدا أن يموت.