رياض الترك مناضل عنيد... ولكن
كالعادة؛ في عالم "السوشيال ميديا"، عندما يرحل عن دنيانا شخصٌ سوري معروف، تبدأ صوره بالانتشار، مصحوبة بتعليقات تعدّد أوصافه وإنجازاته، وفي حال كونه معارضاً، يطغى المديح على التعليقات، وإذا كان مناضلاً قوياً، مثل رياض التُّرك، يرتفع معدل المديح له، ويجري التركيز على أن عداءه السلطة الديكتاتورية كان يتّسم بـ "العناد". لم تأتِ كلمة "العناد"، هنا، عبثاً، بل مقصودة، فالصفة التي أطلقت على معظم الشيوعيين المعارضين لأنظمة الحكم، منذ الخمسينيات، هي "مناضل عنيد" ولعلنا نستطيع الآن، بعد هذه العقود، أن نتساءل عن السبب الذي جعلهم يتجنّبون استخدام صفات أفضل منها، كالقول: مناضلٌ ذكي، مناضلٌ محنّك، مناضلٌ يجيد التكيّف مع الظروف، مثلاً.
لا أعرف المناضل رياض التُّرك شخصياً، لكنني أعرف من سيرته الكثير، بحكم علاقاتي الطيبة مع عموم اليساريين السوريين، وأذكر أنني كنتُ أعبر أحد شوارع دمشق، في السنوات الأولى لحكم بشّار الأسد، وشاهدت نفراً من الشبان والصبايا يقفون على نسق، ويحملون لافتاتٍ صغيرة كتبت عليها عبارة "الحرية لابن العم"، وكان ذلك أمراً جديداً علينا، فنظام الأسد كان يواجه كل أنواع الاحتجاج بالرصاص الحيّ، فكيف جرؤ هؤلاء الفتية على هذه الوقفة؟ وعرفتُ، لاحقاً، أن ابن العم المقصود هو رياض التّرك الذي أعيد إلى السجن، بعد اتصال قناة الجزيرة به في دمشق، يوم 10 يونيو/ حزيران 2000، وسؤاله عن موت حافظ الأسد، فقال: اليوم مات الديكتاتور! وقد كتبتُ في مقدمة كتابي "كوميديا الاستبداد" 2018، تحت عنوان "ريادة"، أن أول إنسان سوري وصف حافظ الأسد بأنه ديكتاتور، في مقابلة تلفزيونية علنية، المناضل رياض التُّرك.. وأما تسميته ابن العم، فمنشؤها، كما أعلمني وائل السواح، أنه كان يقول لمن يريد التحبّب إليه في الكلام: أنا، يا ابن العم، أرى كذا وكذا..
أميل إلى الظن أن سبب الخلاف الذي احتدم بين خالد بكداش ورياض التّرك سنة 1969، وانتهى بانشقاق الحزب سنة 1972، أنّ كلاً منهما ذو نزعة فردية، لا يحتمل أن يشاركه شخصٌ آخر في السلطة، ومن عجائب ذلك الانشقاق أن المكتب السياسي، الذي عرف منذئذ بجماعة رياض التُّرك، تبنّى مفهوميْن كانا مرفوضيْن لدى الشيوعيين: القومية العربية، والديمقراطية... وكان هذا المفهوم الأخير يصطدم بالنزعة الديكتاتورية الموجودة في شخصية ابن العم، التي استمرّت معه إلى يوم وفاته في مطلع سنة 2024 عن 93 سنة، وكان يحسم الكلام في جلّ حواراته بشأن مستقبل سورية، بعبارة: ليسقُط نظام عائلة الأسد أولاً.
تكاد التيارات السياسية المعادية لنظام الأسد تجتمع، كلها، على حبّ ابن العم، والنظر إلى تاريخه النضالي، بالتقدير، وبضمن ذلك جماعة الإخوان المسلمين التي كانت، ولا تزال، في حالة صدام أيديولوجي مع سائر الشيوعيين، عدا ابن العم الذي رأى، في أواخر السبعينيات وأوائل الثمانينيات، أن بإمكان حزبه التحالف معهم لإسقاط نظام العائلة، ولم ير ما يمنع من التعاون معهم، مجدّداً، بعد انطلاق ثورة 2011، للهدف نفسه، وهذا ما جعل معظم اليساريين السوريين يسارعون، فور تلقّيهم خبر وفاته، إلى نعيه، ورثائه، وذكر شجاعته، وصموده ربع قرن في السجون، عدا عن فترات الهرب والتخفّي، حتى اكتسب لقب "مانديلا سورية"، مع إضافة كلمة (ولكن) إلى مطلع الديباجة، وبالأخص أعضاء حزب العمل الذين يأخذون عليه رفضه مبادرات الاتحاد بين ذينك الفصيلين الشيوعيين، في حين قبل بالتعاون مع الإخوان المسلمين، وقد تجرّأ بعضهم، فذهب إلى أن هذا الأمر يستند إلى خلفية طائفية، باعتبار ابن العم "سنّياً"، بينما معظم أعضاء "العمل" علويون ودروز ومسيحيون وإسماعيليون، والكلام نفسه ينطبق على الإخوان المسلمين، الذين يرفضون التعاون مع أي تيار شيوعي، باستثناء ابن العم، ربما بسبب القرابة المذهبية ذاتها.