روسيا في ساحة المعركة
كتب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، عن أزمته في أوكرانيا، مقالا طويلا من حوالي سبعة آلاف كلمة، في يونيو/ حزيران الماضي، نشره على موقع الكرملين. تقمّص فيه دور رجل التاريخ، العارف بتفاصيل تحوّلات العلاقة الأوكرانية الروسية، وقدّم كرونولوجيا أو سردا سنويا للأحداث التي مرّت على البلدين، مستعرضا الشعوب والقوميات واللغات والحروب وبعض الأنبياء! كان بوتين يصرّ على أن الروس والأوكرانيين شعب واحد، ويؤكد أن لديهم وشائج ثقافية واقتصادية وروحية. وربما يعني بالروحية الخلفية الأرثوذكسية التي ينتمي إليها معظم الروس والأوكرانيين، قافزا فوق رأي الأنظمة الشيوعية بالدين، وقاصدا وجود كنيسية أرثوذكسية في كييف، تتبع روحيا لبطريرك موسكو، رغم أن الأوكرانيين يعدّون كنيستهم الوطنية المعتَمدة هي الكنيسة الأرثوذكسية المستقلة. وفي مقالته ذاتها، يعتبر بوتين أن أوكرانيا، بإصرارها على الاستقلال التام والالتحاق بالغرب، ومحاولة الانضمام إلى حلف الناتو، تتنكّر لماضيها الذي عاشته في أحضان روسيا. ويختم مقاله، المشبع بروح عاطفية وتاريخية، بأن روسيا لن تكون أبدا إلا مساندة لأوكرانيا، مؤكدا أن ما تريده أوكرانيا أمر متروك لأبنائها!
لا يلتفت بوتين، في مقاله، إلى التاريخ القريب الذي قادت فيه روسيا أحداث عنف ومحاولات انفصال في شرق أوكرانيا، ويدير ظهره لواحدة من أكبر عمليات القضم الجغرافي، عندما ضم القرم بدم بارد وبشكل نهائي إلى روسيا.
تلك المقالة موجهة إلى الأوكرانيين، ولكن المؤكد أنها موجهة بالدرجة الأساسية إلى الغرب، فكاتبها يرغب بإعطاء حلف الناتو والاتحاد الأوروبي درسا في التاريخ، ويُدخل في ثقافتهما الوضعين، الروسي والأوكراني، على مدى القرون الماضية، ويبنى على ذاك التاريخ أن من الممنوع على أوكرانيا أن تدخل في "الناتو"، وارتباطها السياسي والاقتصادي يجب أن يكون مع روسيا وحدها، من دون أن يذكر بشكل وقح أن الوضع يجب أن يكون مماثلا لحالة السيد والعبد. لا يحاول بوتين العودة إلى الحالة السوفيتية، وقد وجه انتقادا حادا لها في خطابه قبل أيام، لكنه يرغب في بناء فضائه الروسي الخاص تحت عناوين الثقافة المشتركة، ومنها الأرثوذكسية التي تشكّل، من وجهة نظره، أرضيةً تُبنى عليها التكتلات الكبيرة الناجحة.
ينتهي بوتين من ثرثرته التاريخية، ويبدأ قبل أيام عملية عسكرية في أوكرانيا، وهو يريد أن يفرض بالقوة ما فشل بالاتفاق عليه، سواء مع أوكرانيا أو مع الدول الغربية، ومن دون أن يتورّط في حرب طويلة الأجل، أو يخوض في مستنقع وعر، يشبه الذي خاضته روسيا من قبل في أفغانستان، والدروس المستفادة منه أن الجيوش قد تنتصر في ساحات المعركة، ولكن السيطرة موضوعٌ آخر لا تقرّره الدبابات أو المصفحات العسكرية. ويحاول الإثبات، بشكل واقعي، أن الارتباط مع الغرب قضية خاسرة، ولا يجب أن يعتمد الأوكرانيون عليها، فهو يؤمن بأن دخول قواته إلى دونباس، وفرض وقائع جغرافية جديدة، لن يجعلا الغرب يتحرّك، أو يغامر بإطلاق رصاصة واحدة نحو الجبهة الروسية، فيرسل رسالة إلى الأوكرانيين أن التاريخ وحده سيكون معهم! ويقصد طبعا التاريخ الذي تحدث عنه في مقاله المطول.
أدرك الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، عندما ظهر أمس بذقن طويلة غير محلوقة و"تي شيرت" استعراضي، أن الغرب لن يقدّم أية مساعدة، فدعا الأوكرانيين للدفاع عن أنفسهم. وقال بلهجة محبطة "لقد تركونا من دون أية وسيلة للدفاع عن أنفسنا"، ثم تابع: "بكل أمانة، لا أجد أحدا مستعدّا للقتال إلى جانبنا". وهذا بالضبط ما يريده بوتين، بإظهار الغرب وحلف الناتو عاجزين عن تقديم دعم، يتجاوز العقوبات التي يمكن للاقتصاد الروسي أن يمتصّها على مدى طويل. وبعدها لا يبقى أمام الحكومة الأوكرانية إلا أن تعلن عجزها، وقد تقدّم استقالتها، مفسحة المجال لحكومة عميلة أن تحلّ محلّها.